نستحضر اليوم ذكريات مريرة، ومريرة جدا.
انقضاء اربعين عاما على هزيمة حرب حزيران. وربع قرن على غزوة اسرائيل للبنان، وعشرين عاما على اغتيال الرئيس رشيد كرامي.
والاكثر ايلاما الافرازات المرضية والمدمرة والمحبطة خلال هذه الحقبة والتي آلت الى التفكيك المأسوي للعقد العربي الذي اعتبرناه حلماً، كلا... بل مشروعا لا يزال واعدا.

فلعل التداعيات التي حصلت، ولا تزال تحصل، طوال هذه السنوات كان سببها الرئيسي الوهن في الجسم العربي القوي الذي ادى بدوره الى ضعف، وفي كثير من الأحيان الى فقدان المناعة في عدد من الاوطان العربية.

• • •

في محاولات لململة الشظايا المتناثرة تباينت الوسائل الى درجة ان وحدة المصير العربي حولتها "الواقعية" المفترضة (والمفروضة ايضا) تعددية المصائر، ثم "استقلاليتها" وبالتالي تناقضها. هذه البعثرة افقدت النظام العربي القائم القدرة على تحديد اولوياته، فتضاربت كما تنامت التقوقعات وحصلت حالة اغتراب بين اقطاره وكاد ان يمس بتلقائية المشاعر واصالة الوحدة بين شعوب الامة مما جعل العوامل الجامعة بينها كأنها متطفلة على الواقع، الى درجة ان التحامل على رسوخ عناصر التوحد أدى الى توصيفها بجهالة عصية على الاعتراف بالواقع الجديد - او بالواقعية. ورغم ان المتمسكين بوحدة المصير سلموا بما سمي بالواقع المستجد الا انهم لم يستسلموا لاستمراره او اعتباره قدرا محتوما.

هذه القراءة تقودنا الى الاستنتاج أن لدى شعوب الامة حيوية ملهمة ولكن ليست لديها مرجعية متواصلة وموثوق بها. ورغم ذلك تمكنت هذه الحيوية من ان تحقق انجازات متقطعة مثل اصرار مصر على الصمود بعد الهزيمة، و"معركة الكرامة" اوائل 1968 ثم انتفاضات شعب فلسطين ضد الاحتلال والتهويد وبروز مقاومة الاحتلال في العراق والاصرار في كل الاوضاع المأزومة - فلسطين، لبنان، والعراق على التمييز الواضح بين المقاومة الشرعية والارهاب الذي يحاول التلطي وراء شعارات اسلامية، كما هو حاصل مع "فتح الاسلام" في مخيم نهر البارد، وكما تحاول المقاومة في العراق مواجهة بؤر "القاعدة" وتطويقها، وكذلك محاولات اللململة والجهود التي تقوم بها غالبية المجتمعات الاهلية والمدنية، وبعض الاحيان مبادرات تنموية لبعض الانظمة، الا ان هذه الانجازات المتقطعة لم توظف بما فيه الكفاية لتصب في المصلحة العربية عموما... وحتى انه في بعض الاحيان نكاد نفرط بكثير من الانجازات المتقطعة ونهدر امكانات جعلها رصيدا مرشحا للاستهلاك والتثمير.

• • •

لماذا؟ حتى عندما تتوافر مرجعيات سياسية او روحية او فكرية – وهي متوافرة – تبقى في معظمها محصورة في اطر وطنية. وتكون نجاعتها عند توافرها محلية او اقليمية، وقلما تتمتع بنجاعة قومية، وان تمكنت من ان تحظى باعتراف عربي واسلامي كما حصل في صيف 2006 لقائد المقاومة اللبنانية، فان الاقرار يبقى الى حد ما موقتا ليس بسبب نقص في الاهلية بل لكون التبعثر في الحالة العربية لا يزال ارجح من التناسق ولكون التشرذم بدوره ارجح روافد التكامل.

... وحتى في الحقبة الناصرية عندما توافرت مرجعية قومية موثوق بها وقادرة على تفعيل الحيوية الشعبية الكامنة، حولت هزيمة حرب حزيران التلقف الطوعي، الذي ارتآه الرئيس عبد الناصر تعاطفا دافئا مع رغبة في المشاركة في التعدد وتصحيح الثغر التي من خلالها حصل النزف ومهد لمراجعات تبلورت في الصمود وحرب الاستنزاف.
لكن الثقافة السياسية السائدة بعد حزيران 1467 بقيت الى حد كبير مدمنة عدم المساءلة واستمر الانتقاد مشبوها بكونه معارضة وحتى يومنا هذا لا تزال عملية نقد الذات حتى من موقع الالتزام مدخلا لدى معظم الانظمة العربية الى التشكيك وبالتالي اعتبار النقد من موقع الالتزام نوعا من التربص. وهذا بدوره يفسر انه حتى الفرق nuance غير مسموح به وبالتالي مرشح للتهميش وكثيرا ما يتعرض هذا "الاقتراف" للقمع!

نشير الى هذه الظاهرة لكونها افرزت طاقما ضئيلا من مثقفي التبرير. اعتبر ان المستجدات الحاصلة تشكل البدائل من الثوابت القومية. وكذلك الامر اعتبر الملتزمون الثوابت المرغوبة قوميا ان اي تكيف مع المتغيرات يشكل انحرافا وتمييعاً لمفهوم الالتزام.

كانت النتيجة في كلا الحالين إفراز طاقم من المثقفين في مصر ممن برروا سياسات الصلح مع اسرائيل وضرورة الانقلاب على سياسات المواجهة وثقافة المقاومة في أي ساحة عربية، وكان لا بد لثقافة التبرير من أن تجعل مفهوم استقلالية القرار يقارب الانسلاخ عن المصير المشترك، مما مهد لأن يعمل كل نظام عربي على استقلالية قراراته. حتى ان منظمة التحرير الفلسطينية وصفت بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. كان هذا بالنسبة الى الشعب الفلسطيني منطقاً تنظيمياً. لكنه خصوصاً بعد سياسات التطبيع اصبح ملتبساً. وكما اشرنا في مقالات سابقة، لا السلطة هي مشروع دولة، ولا حكومة "حماس" هي اطار واضح للمقاومة. ورغم هذا الالتباس بقيت حيوية المقاومة قائمة، ولكن صارت مرجعيتها أكثر غموضاً. ولعل هذا بدوره يفسر كون هذا الغموض في مرجعيات المقاومة عطل استقامة المعادلة داخل الاراضي المحتلة ويفسر صعوبة تأثير القيادة الفلسطينية على ان تضبط الافرازات في شكل حاسم، مثل "فتح الاسلام" وقبلها اصرار معظم الفصائل الفلسطينية على "استقلاليتها" وبالتالي تعثر خطابها وافتقدت الى تعبئة المخزون الهائل للتأييد لحقوق شعب فلسطين على ما ظهر في قرارات مؤتمر معلمي الجامعات والمدارس البريطانية في الاسبوع المنصرم.

المعضلة التي تواجهنا اليوم ان التفكيك في النظام العربي، وبالتالي فقدان مرجعية عربية فاعلة وموثوق بها من شأنه اذا استمر ان يفتت المجتمعات العربية كما هو حاصل في شكل فاقع في العراق الجريح، وقد شاهدنا منظرين لهذا التداعي عندما رحب رئيس الحكومة العراقية بالوفدين الاميركي والايراني كي يتباحثا في مصير دولة العراق وهو أحد مؤسسي جامعة الدول العربية. كما ان تفاقم ازمة اللاجئين من العراق نتيجة التفتيت وما أورثنا اياه الغزو الاميركي يماثل مأساة اللاجئين الفلسطينيين وعدم قدرتنا على تصور معالجة تضمن لهم حقوقهم ناهيك بأوضاعهم الحالية، فما العمل؟

في يوم الذكرى هذا نحتاج الى وقفة تأمل واستشراف لمستقبل يبدو حالكاً وظالماً، لكنه يدعونا جميعاً الى ان نعتاد نقد الذات وليس لطمها، وان نستعيد رحابة ظل من الفرق وعند ذلك يتحول القهر الذي نعانيه تحريضاً على تجاوز ما يفرقنا، وتأكيداً لما يوحدنا. وإذذاك تصبح ذكرى مآسينا تحريضاً على معاوضة سيرة التنمية والتكامل واستقلالية الارادة.

كل هذا يدفعنا الى ان ندفع كثراً من الحاكمين والمتحكمين الى أن يتواضعوا لكون الوداعة تقنع وتلزم ولكون الاملاء يستفز وينفر. لقد دفعنا ولا نزال ندفع اثماناً غالية لسياسات التبرير والاملاء والتبعية دماً ورصيداً واحتراماً، وحان الوقت لتساهموا في تمكين شعوبنا من تظهير حيويتها والافادة منها، ولتكفوا عن تهميشها وقمعها.
في ذكرى 5 حزيران "تنذكر وما تنعاد".