لا أدري بدقة لماذا يذكرني عاصي الرحباني بحلب ليس موسيقيا فحسب بل على مستوى تناول الحياة نفسها ، مع التدقيق في امكانية مقارنة رجل بمدينة ولكن للخيال مقارباته التي لا تحكمها خطط التعريفات المدرسية . ربما لأنهما وجدا في أرضي الدلعونة هذه الاغنية الفلكلورية الشائعة من ساحل المتوسط حتى تلال زاغروس ومن ومنحدرات الاناضول حتى قوس الصحراء جنوبا ، متخذة شكل البيئة والثقافة موسيقيا أي أن البيئة تعيد انتاجها بما يناسبها دون الولوج الى منعرجات التعصب والاستفراد فالفن هو حالة اندماج نهائية مع مكوناته وتراكماتها .

ربما كان هذا التشابه ناتج عن ما قامت به حلب موسيقيا و( ثقافيا على وجه العموم ) فحلب بوابة الشرق القديم التي استطاعت ان تجدل ( جدلا وجدائلا ) موسيقا شرق سوريا السريانية ( التي هي بدورها ليست صافية العرق ) مع موسيقا غرب سوريا البيزنطية ( التي هي أيضا مزيج حضاري ) وتصدرهما كموسيقا حلبية يجمع الكثيرون على استساغتها ولها باع طويل في اعادة تشكيل وصياغة الموسيقا والاستماع كموسيقا واستماع، هذا الاندماج او الجدل هو ما قام به العبقري عاصي الرحباني بين البيزنطي والسرياني مضيفا عليه دون أي عصاب الهارموني وغيره من منجزات الموسيقا العالمية لنحصل على تركيبة انسانية للموسيقا تدخل في باب الاستساغة والانسعاد والامتداد على ارضي الدلعونة .

في ذكراه العشرون ، نتذكر أننا عندما نقارب الابداع ، فأن مكنوناتنا الثقافية ( مثل الخصوصية والالتزام ) سوف تظهر شئنا أم ابينا وأي جدل مع الآخرالقريب أو ( الغريب ) لا يسمم الابداع أو يقتله بل يجمله ويرفع من قيمته فالصفاء العرقي هو قاتل الابداع الحقيقي ، لذلك ليس هناك لزوم لعصاب الامتلاك أو عصاب ( ألأصالة ) فالفن هو للسعادة وليس للتأصيل .

لا لزوم لسرد انجازات هذا العبقري والتي نعرفها جميعا ، ولا لزوم للأحساس بالافتقاد ، فالتأسيس الذي قام به عاصي الرحباني يجعل من الموسيقيين بعده وكذلك السميعة قادرين على اختيار الطريق السليمة للتعبير عن روح الاجتماع البشري ، ربما كان زياد ( ليس كأبن بيولوجي ) مثالا منطلقا من تأسيس حقيقي ليس في رؤية الموسيقا فقط بل في التفاعل مع الحياة ومكوناتها الثقافية .

ولا لزوم ان نقول ان عاصي لم يغادرنا لأن موسيقاه محفوظة في القلوب وعلى الاذاعات ... لقد اسس عاصي لطريقة تفكير بالموسيقا والفن ، والتفكير هو اساس الحياة.