اتخذت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس خياراً مثيراً للاهتمام عندما ذكرت أسماء الرؤساء الأميركيين الذين تعتبر سياساتهم الخارجية نموذجها الذي تحتذي به. وتحدثت رايس في الأسبوع الماضي في حفل العشاء المئوي لنادي نيويورك الاقتصادي عن "الواقعية الأميركية"، وهو المفهوم الذي يبدو أنها ستستخدمه كمفتاح لتفسير سلوكها في الأشهر الثمانية عشرة المتبقية لها في منصبها. إن "هذه واقعية بكل تأكيد"، ولكنها واقعية يكمن خلفها "شيء أكبر، شيء أكثر نبلاً". رايس -التي كانت قد تلقت تعليمها على أساس "واقعية" أكثر بروداً وأقل نبلاً هي التي وسمت إدارة بوش الأول، ثم أصبحت مكوناً مركزيا في السياسة "المثالية" لإدارة بوش الثاني- تبدو الآن وهي تحاول تمهيد وتعبيد طريق يخصها وحدها.

سينظر البعض إلى ذلك بوصفه محاولة تبذلها رايس لمساعدة الرئيس، لتفسيره على نحو أفضل. لكن من المرجح أن آخرين سوف يصلون إلى خيار مستقل ومختلف: إن رايس تنأى بنفسها عن "إرث بوش" في محاولة منها لخلق إرث خاص بها. وفي اجتماع مع صحافيين من شبكة التلفزة الأميركية (إن. بي. سي) عقدته في اليوم التالي، سئلت رايس عما اذا كان هذا "هو بداية لعقيدة رايس"، على نحو شبيه بتلك التي كان قد نطق بها وزير الخارجية الاسبق جيمس مونرو في أوائل القرن التاسع عشر. فأجابت بتواضع "كلا، أرجوكم". لكن الصعب الاعتقاد بأنها ستعترض على تسجيل براءة هذا الاختراع باسمها.

في كلمتها المذكورة، ركزت رايس بشكل رئيسي على السياسة الخارجية لواحد من اعظم الرؤساء الاميركيين، تيدي روزيفيلت. وهو يشكل ، حسب رأيها، النموذج الصحيح لمنهج لا يستند الى الواقع السياسي الكوني فقط، وإنما أيضاً إلى طبيعة الشخصية الأميركية وبنفس المقدار. وهكذا، فان رايس ترفض الواقعية التي يكون هدفها الوحيد هو الحفاظ على الاستقرار. ذلك أن أميركا، بطبيعتها التي تكاد تكون ثورية، إنما تناضل من اجل إحداث تحول في الواقع الكوني، ولو كان ذلك بالطبع في اطار حدود مصالحها وقدرتها على التنفيذ.

خلال الاجتماع في محطة إن. بي. سي، سئلت رايس عن الانتقاد الذي كان الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر قد وجهه إلى إلادارة. ولم يكن كارتر، ذلك ما لم يأت بالتأكيد بمحض الصدفة, واحدا من الرؤساء النموذج الذين ذكرتهم رايس في كلمتها المبرمجة. فبالإضافة الى روزيفيلت, كان هناك ثلاثة آخرون (والعديد من مستشاريهم) كلهم من فترة الحرب الباردة: الديمقراطيان هاري ترومان وجون اف. كنيدي، والجمهوري رونالد ريغان. وقد قفزت رايس عن الرؤساء الجمهوريين دوايت دي. آيزنهاور وريتشارد نيكسون وجورج إتش. دبليو بوش، وعن الديمقراطيين ليندون جونسون وكارتر. وفيما يتعلق بالسؤال الخاص بانتقاد كارتر بلهجة ترمي إلى التسخيف: "نعم، وكل أولئك الآخرين حققوا نجاحات عظيمة مثلما فعلوا في حل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، ألم يفعلوا؟".

وهكذا وهنا، وعشية زيارة أخرى سيقوم بها رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود أولميرت إلى واشنطن، تعزو رايس فضلاً في تحقيق نجاح آخر متأرجح الى الرئيس جورج دبليو بوش. ووفق قراءتها، فان بوش هو الشخص الذي يعود إليه الفضل في أن "حجماً كبيراً" من الجمهورين الاسرائيلي والفلسطيني باتوا يرغبون الآن في تحقق رؤية حل الدولتين. وقد أعلنت رايس عن "أن الناس يتصرفون وكأن ذلك مجرد شيء حدث بطريقة سحرية. حسناً، لم يكن كذلك بالطبع. لقد حدث لأنه كان سياسة أعلنها بوش في وقت مبكر ودأب على انتهاجها منذ ذلك الحين".

على أي حال، يمكن اعتبار عبارة رايس هذه استمرارا مباشرا لاعلان بوش نفسه في تشرين الاول-اكتوبر 2005 في "روز غاردن" بينما كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس يقف إلى جانبه. حيث قال الرئيس إن بعض الناس يقولون عني "انني احب ان ارى الدولتين قبل ان اترك الرئاسة. ليس ذلك صحيحاً". وكان بوش قد خفض سقف التوقعات مسبقاً عند ذلك الوقت، حتى قبل أن تصل حماس إلى السلطة، وقبل ان ينهار ارييل شارون، وقبل اندلاع الاقتتال في غزة. والآن، يبدو أن رايس التي تؤيد حل الدولتين تمهد الارضية لخيبة أمل متوقعة. ستكون قادرة على الزعم حين يحين الوقت المناسب بأن ما قاله بوش صحيح، وأن دولة فلسطينية لم تقم؛ لكن بوش نجح في إحداث تغيير حاسم في الرأي العام.

في الاثناء، وإذا ما ذهبنا إلى ما وراء الكلمات والخطابات، والى ما بعد الخطابات، فإن وزيرة الخارجية ومساعديها سوف يستفيدون من وضع الخطوط الرئيسية لطريق "الواقعية الاميركية" التي تجري الآن ترجمتها إلى العربية المحكية في أزقة قطاع غزة الداخنة. وتلك هي الفلسفة السياسية التي ستفسر رايس من خلالها تلك الجهود الرامية إلى تقوية مركز فتح التي خسرت الانتخابات، وعلى حساب حماس التي كانت قد كسبتها على نحو مشروع. وتلك أيضا هي النظرية التي ستبرر الاعتمادية الأميركية المتجددة على الأنظمة العربية القمعية والمخادعة والأوتوقراطية. نظرية السعي إلى ما هو مرغوب، والاستفادة مما هو قائم.

مصادر
هآرتس (الدولة العبرية)