لسنوات طويلة اعتاد المراقبون على عدم التسرع في الحكم على أي تطورات في مواقف كل من سوريا وإسرائيل تجاه مسار السلام بينهما، بالنظر إلى أن خبرة هذا الملف رسخت الانطباع بأن كلا منهما لا يتأخر في مسايرة أى شواهد أو تطورات إقليمية ودولية قد يفهم منها أن الظروف أصبحت ناضجة لأن يغلق الطرفان هذا الملف الشائك الممتد منذ 40 عاما، ولكنه في الوقت نفسه لا يغامر كل منهما بالمعنى بعيدا في التفاؤل تقديرا منه بأن الظروف لم تنضج على النحو الكافي.

ولكن في ظل ما وقع في المنطقة من تطورات عقب الاحتلال الأميركي للعراق وما صاحبه من الترويج، بل والعمل على تنفيذ مشروع إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط، لم يعد ملف الجولان مقتصرا على انتظار الوقت والظروف المناسبة له إقليميا بوصفه أحد الملفات الصعبة في الصراع العربي - الإسرائيلي، بل دخل عليه متغير جديد جعله أكثر تعقيدا من قبل وهو الربط بين الوضع الإقليمي والموقف الداخلي سواء في سوريا أم إسرائيل أو حتى بالنسبة لأي أطراف في نقطة ساخنة أخرى بالمنطقة، أي أن حل الأزمات الإقليمية يفرض تغييرا داخليا هنا وهناك. وفي هذا الإطار شهد ملف الجولان فصلا أو أكثر من قصة الصراع الجديد في المنطقة بين الضغوط الخارجية (أو الإقليمية) والأوضاع الداخلية، فأصبح بمثابة العنوان للمصير الذي من المفترض أن ينتهى إليه الوضع السياسي سواء في سوريا أم إسرائيل. ولذلك فإن عدم التسرع في الحكم على بعض الشواهد التي قد توحي بأن كل من الدولتين أصبح قريبا من الحل، أصبح له مبرر آخر هو اتساع مساحة الصراع في هذا الملف إلى حد التداخل الشديد بين الوضعين الداخلي والخارجي والتقلب في موازين القوى ورؤى عناصر صناعة القرار السياسي في كل من الدولتين.

لقد عرض إيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل على سوريا ما وصفه المراقبون بصفقة سياسية لحل قضية الجولان تتضمن استعداد إسرائيل للانسحاب من هناك مقابل أن تدير سوريا ظهرها للقضية الفلسطينية، وتوقف دعمها للمقاومة اللبنانية المتمثلة في حزب الله مع التخلي عن تحالفها الاستراتيجي مع إيران. وجاء عرض أولمرت وسط حملة إسرائيلية سياسية وإعلامية تحدثت عن وجود اتصالات مع دمشق عبر طرف ثالث هدفت إلى استكشاف كيفية استنزاف المفاوضات، وكانت مصادر عربية إعلامية قد أشارت منذ عدة شهور إلى وجود قنوات سرية للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب تلاقت مع نصائح وجهت إلى الرئيس الأميركي جورج بوش من الديمقراطيين في الكونغرس عقب حرب لبنان الأخيرة بضرورة الانفتاح أميركيا وإسرائيليا على سوريا لإبعادها عن إيران وحل الأزمة اللبنانية وقضية الجولان ذاتها، ولكي تقوم سوريا بدور فى إنهاء الوضع المضطرب في العراق. ولكن ما كاد أولمرت يفصح عن «صفقته الجديدة» حتى خرجت تقديرات مضادة تماما لما يمكن استنتاجه لأول وهلة من العرض الإسرائيلي بأن طريق السلام أصبح مفتوحا بين دمشق وتل أبيب. فقد تم تفسير هذا العرض على أنه محاولة لاستكشاف ما يمكن أن تقدمه سوريا لإسرائيل إذا ما انسحبت الأخيرة من الجولان، وتحديدا معرفة ما إذا كانت سوريا ستوافق على قطع علاقاتها الإستراتيجية مع إيران وتتوقف عن دعم حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية في مقابل الانسحاب الإسرائيلي من الجولان، وقال مسؤول سياسي إسرائيلي ـ وفقا لما نشرته صحيفة هآرتس (10/6) ـ إنه من واجب رئيس الوزراء الإسرائيلي فحص المسار السوري، فقد عرضت عليه تقديرات متباينة من الموساد وشعبة الاستخبارات في الجيش وفضل إجراء فحص عن طريق قنوات مقبولة لدى السوريين (قيل إن من بينها تركيا) لمعرفة ما إذا كان تجديد المفاوضات يخدم مصالح إسرائيل ويبعد سوريا عن «محور الشر» وينقلها إلى محور الاعتدال حيث إن هدف إسرائيل هو منح السوريين الشرعية الدولية على حد تعبير هذا المسؤول الإسرائيلي. ومن جانبه أكد عمير بيريتس وزير الدفاع الإسرائيلي للإذاعة العامة الإسرائيلية أن اتصالات غير مباشرة جرت مع سوريا عن طريق وسطاء لمعرفة نيات دمشق الممكنة للتوصل إلى سلام مع إسرائيل وقال «كان هناك وسطاء دائما وكان علينا أن نتحقق من كل هذه التصريحات السورية حول إمكانية فتح مفاوضات علنا أو سرا وقد قمنا بذلك». وحتى يؤكد أولمرت غرض الاستكشاف ليس إلا ولكي يلغي الانطباع الذى ترسخ سريعا لدى الكثير من المراقبين فور استماعهم لعرضه الجديد الذى تصوره فتحا في عملية السلام المتوقفة بين الجانبين، نفى مكتب أولمرت وجود أي نوع من التفاوض أو حتى الاتصال مع الجانب السوري وأكد رئيس المكتب أن الموضوع سابق لأوانه مشيرا إلى أن إسرائيل مشغولة حاليا بالمسار الفلسطينى، ومع الانسحاب الإسرائيلي الرسمي السريع من حملة السلام المفاجئة والمفتعلة بدأ الإعلام الإسرائيلي يوجه دفة اهتمامه إلى العكس تماما ليشير إلى أن المخاوف الإسرائيلية من أي تحرك عسكري سوري محتمل لتحريك قضية الجولان لا مبرر لها وأن تكثيف الرسائل الإسرائيلية إلى دمشق من أجل استئناف المفاوضات وتجنب الحرب قد يبعث رسالة إلى العالم بأن ذلك ناجم عن ضعف الموقف الداخلي السياسي والعسكري من إسرائيل وان تداعيات الهزيمة في حرب لبنان مازالت قائمة. وعلى عكس لغة الحمائم تعالت سريعا لغة الصقور داخل الكنيست بقيادة اليمين الليكودي تحت زعامة بنيامين نتانياهو متهمة حكومة أولمرت بالضعف في ضوء ما صدر منها حول اختيار كيفية استئناف المفاوضات مع سوريا، واستضاف الكنيست فريد الغاوري الأميركي من أصل سورى الذي شكل تنظيما معارضا لسوريا في أميركا وبدوره، حث الغادرى إسرائيل على شن الحرب على سوريا لتغيير نظامها السياسي!

ولأن سوريا قد اعتادت على مثل هذه التناقضات في المواقف الإسرائيلية فإنها حرصت رسميا على نفي وجود أي مفاوضات سرية مع تل أبيب في السابق القريب والحاضر، وكذلك نفى تلقيها عرض أولمرت عبر وسطاء كما قالت الحكومة الإسرائيلية، وبدت دمشق غير معنية تماما بكل هذه الحملة الإسرائيلية الطارئة، وحيث إنها اعتبرت أن القضية من أساسها غير موجودة فإنها لم ترد بموقف محدد تجاه كيفية استئناف المفاوضات مع إسرائيل، ليعود الموقف بين البلدين إلى موقع الحذر والترقب والاستعداد لأي مواجهة ساخنة. ولكن هل يمكن القول ان كل ما شهده ملف الجولان على مدى الأسابيع الماضية (قيل إن الاتصالات الجديدة بشأنه بدأت في ابريل الماضي) كان مجرد بالونة اختبار من إسرائيل أو فقاعة هواء قابلتها سوريا باللامبالاة، أم أن هناك أساسًا موضوعيًا لكل ذلك يؤكده ويفسر في الوقت نفسه التراجع الإسرائيلي والصمت الأقرب إلى الرفض من جانب سوريا.

في الواقع يصعب استبعاد وجود عروض سواء من جانب سوريا أو إسرائيل أيا كان الشكل والتوصيف الذى تتم به، ولكن من الصعب وصفها بمفاوضات سرية خصوصا أن إمكانية التفاوض المباشر أو الثنائي أصبحت واردة دون أي تحفظات عربية، بعد أن أتاحت قمة الرياض العربية هذا المدخل سواء فيما اتفقت عليه من اتصالات لتسويق المبادرة العربية أم القبول بأشكال من «التفاوض الجماعي المحدود» عبر الرباعية العربية أم اللجنة العربية المعنية بعملية السلام بغرض بناء الثقة والتعرف على ما يسمى بالأفق السياسي لتسوية عربية شائكة مع إسرائيل. ومن ثم فإن الخلاف الجديد الذي دب بين إسرائيل وسوريا حول ملف الجولان يتعدى مسألة الحساسية من الاتصالات، بل إن استئناف المفاوض لن يحقق نجاحا عبر المفاوضات الثنائية برغم التوافق على مبدأها عربيا، وإنما يتركز في التأثير المتبادل بين ما هو إقليمي وما هو داخلي سواء في إسرائيل أم سوريا، أي أن يتحول ملف الجولان إلى ورقة مهمة يجرى استخدامها لتعزيز أوضاع داخلية تتعرض لضغوط عديدة معظمها نتيجة تداعيات حالة التغيير التى تمر بها منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب الأميركية على العراق. فحكومة أولمرت ضعيفة ومنقسمة على نفسها وتحملت مسؤولية الفشل في الحرب الأخيرة ضد لبنان وتواجه ضغوطا داخلية من اليمين الليكودي من الممكن أن تدفعها إلى مواجهة مسلحة مع سوريا لم تستعد لها بعد زمنيا. ومن جهة أخرى فإن المعتاد في السلوك الإسرائيلي أن القيام بأعمال عسكرية خارجية غالبا ما يكون حلا لتعويض الفشل السياسي الداخلي أو هدفا لاستعادة التماسك داخل النظام السياسي ككل. ولأن أولمرت يريد إعادة ترتيب البيت الداخلي بما لا يسمح لليكود بالسيطرة على الحكومة، وحيث تعرض لانتقادات من داخل الولايات المتحدة وبعض قوى اللوبي اليهودي فإن حكومته عاجزة عن القيام بدور سياسي فعال في تطورات الشرق الأوسط حربا أو سلاما، فإنه تجاوب مع فكرة استئناف المفاوضات مع سوريا حول ملف الجولان دون أن يبدو ضعيفا في عرضه بل بالغ التشدد كما وضح في الشروط التى تضمنتها صفقته المفاجأة فيكسب بذلك بعض الوقت المهم بالنسبة لحكومته خصوصا مع ازدياد ثقل حليفه «حزب العمل» بفوز باراك برئاسته بما يتيح له إعادة بناء التحالف مع العمل بشكل أفضل، والمزايدة على مواقف الليكود المتشددة في عملية السلام، وبذلك يكون قد ألقى مجددا بالكرة في الملعب السوري إن حربا أو سلما وفتح لنفسه المجال ليعيد تقوية تحالفه الحكومي الهش، وأما بالنسبة لسوريا فإنها تريد فعلا تحريك ملف الجولان ولكن بالقدر والتصور الذي يحسن وضعها الداخلي ويحفظ استقرارها ويجنبها الضغوط الخارجية الهادفة إلى تغيير بنية النظام السياسي، فتجميد الوضع عند حالة اللاحرب واللاسلم لن يفيد إلا في تعزيز هذه الضغوط الخارجية، فضلا عما يسببه من قلق داخلي يمكن أن تستثمره قوى المعارضة في الخارج، ولذلك فإن دمشق، نشطت فعلا خلال الأشهر الماضية في اتجاه استئناف مفاوضات السلام مع إسرائيل وقبلت ما انتهت إليه قمة الرياض من إعادة التأكيد على المبادرة العربية للسلام دون تغيير، مع فتح الطريق أمام تفعيل هذه المبادرة، ولكنها من جهة أخرى مضت في طريق التأهب لحرب محتملة قد تشنها ضدها إسرائيل على خلفية تعقيدات الأزمة اللبنانية والمواجهة بين أميركا وإيران ليس فقط لتحريك قضية الجولان ووضعها على خريطة الحل حتى لو تم ذلك بعمل عسكري محدود أو واسع، وإنما للدفاع عن موقفها الداخلي الذى يتعرض لضغوط خارجية متنوعة تسعى إلى ضرب الدولة السورية ذاتها.

مصادر
الوطن (قطر)