ما إن أعلنت الخارجية الفرنسية رغبتها في إرسال مبعوث فرنسي رفيع المستوى لدعوة القوى اللبنانية إلى لقاء حواري على الأرض الفرنسية، حتى تحركت الولايات المتحدة بقوة لتفشيل تلك المبادرة. فهل هي تتخوف من أن تستعيد فرنسا في عهد الرئيس ساركوزي سياستها التقليدية المتوازنة التي اشتهرت بها تجاه لبنان؟ وهل سياسة الرئيس شيراك تجاه لبنان كانت أقرب إلى سياسة بوش بسبب اتهامه المباشر لسوريا وحلفائها في لبنان باغتيال صديقه الرئيس الحريري؟ وقد وجَّهَ بالفعل أصابع الاتهام إليها في عرقلة ومنع إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري ضمن مؤسسات لبنان الدستورية، إلى أن اضطر مجلس الأمن لإصدارها تحت الفصل السابع من الأمم المتحدة، ودخلت حيز التنفيذ في 10 يونيو/ حزيران 2007.

ليس من شك في أن ساركوزي الذي دعا إلى حوار مباشر بين قوى المعارضة والموالاة، وألمح إلى حوار قريب مع سوريا لضمان الأمن والاستقرار في لبنان، سيجد نفسه أمام موقف أمريكي متعنت. فالولايات المتحدة لا تسمح لأية دولة مشاركتها في صناعة القرار النهائي للبنان ومنطقة الشرق الأوسط بأكملها. مع ذلك، فدعوة الخارجية الفرنسية للقوى اللبنانية المتنازعة أبرزت موقفين متناقضين، ولو بصورة خجولة:

الأول: بادرت فرنسا رسمياً إلى تقريب وجهات نظر اللبنانيين. وتشير وسائل الإعلام إلى أنها ستدعو حوالي 25 شخصية لبنانية من قوى الأكثرية، والمعارضة، ومسؤولي منظمات المجتمع المدني، وفي حال نجاح مسعاها، من المقرر أن يعقد اللقاء الحواري على الأراضي الفرنسية من أجل إزالة الاحتقان السياسي في لبنان. لذلك حظيت المبادرة بدعم فوري من السعودية، وإيران، وسوريا، مع مقاربة إيطالية مشابهة للحل.

الثاني: رد الرئيس بوش على المبادرة بدعم حكومة الرئيس السنيورة، ودعوة سوريا إلى الكف عن التدخل بشؤون لبنان، وتحميلها مسؤولية الفوضى الأمنية فيه.

في هذا الإطار، استبق المطارنة الموارنة الشهري وصول الموفد الفرنسي بإعلان تأييدهم لقيام حكومة وحدة وطنية ذات برنامج متفق عليه. ودعوا اللبنانيين إلى التوافق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية في موعده الدستوري على أن ينال ثقة غالبية اللبنانيين بحيث يستطيع ممارسة مهامه لإنقاذ لبنان من الأخطار الكبيرة المحدقة به.

دلالة ذلك أن المسألة اللبنانية كانت حاضرة بقوة في مؤتمر قمة الثماني الذي عقد مؤخراً في ألمانيا. وقد نص بيانها الختامي الصادر في 8 يونيو/ حزيران 2007 على تجديد الدعم الدولي لحكومة لبنان الشرعية ومطالبة جميع الأطراف باحترام سلطة الدولة، وتمكين الجيش اللبناني من أداء واجبه على جميع الأراضي اللبنانية. وبعد أن حض جميع الدول المعنية على التعاون الكامل مع المحكمة ذات الطابع الدولي، دعا سوريا إلى تطبيق جميع القرارات الأخيرة الخاصة بلبنان، وأكد اللقاء الجانبي بين الرئيسين بوش وساركوزي على مواصلة دعم لبنان، رغم اختلافهما على كيفية تحقيق ذلك الهدف.

فحين أصر بوش على تجديد الاتهام لسوريا والإصرار على منعها من التدخل في لبنان، لم يستبعد ساركوزي معاودة الحوار معها. لا، بل فتح باب الحوار مع قوى المعارضة اللبنانية الحليفة لسوريا لضمان استقلال لبنان من خلال تدعيم وحدته الداخلية أولاً، فلا معنى لعبارة “ما زلنا ملتزمين بسيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه”، التي وردت في البيان الختامي ما لم تساعد الدول الكبرى على جمع اللبنانيين إلى طاولة حوار تعزز وحدتهم الداخلية، وتحل مشكلاتهم العالقة مع دول الجوار، وذلك يتطلب مواقف جدية من قادتها لتنفيذ “التزامهم الصارم بإيجاد حل سلمي شامل وعادل ودائم لأزمة الشرق الأوسط”. وهنا بالضبط تبرز ثغرة في جدار الأزمة اللبنانية للاستفادة من التباين النسبي بين الموقفين الأمريكي والفرنسي.

1- فالموقف الأمريكي ثابت في دعمه ل “إسرائيل” لدرجة التفريط بسيادة لبنان واستقلاله. وهي تدفع لبنان ليصبح خط المواجهة الأول عسكرياً مع التيارات الأصولية، ولهذه الغاية تبدي سخاء غير مسبوق في تقديم المال والسلاح لتشجيع الجيش اللبناني على الاستمرار في حربه على المخيمات. في الوقت نفسه، تعرقل أمريكا كل جهود التسوية الداخلية التي لا تتضمن نزع سلاح “حزب الله”، ونجحت حتى الآن في تعميق شقة الخلاف بين الموالاة والمعارضة إلى الحدود القصوى وصولاً إلى حافة الحرب الأهلية، ورغم تدخلها اليومي في تفاصيل الأحداث اللبنانية، لا تمل إدارة بوش من ترديد معزوفة الخطر الإيراني على لبنان والشرق الأوسط.

2- تدرك الخارجية الفرنسية بقيادة الوزير كوشنير الذي خبر القضايا اللبنانية منذ سنوات طويلة، أن استقرار لبنان رهن بالحوار الإيجابي بين اللبنانيين أولاً، وفتح حوار بناء من موقع الندية مع سوريا، فالحوار اللبناني اللبناني هو المدخل السليم لتحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية المتفاقمة، وذلك يتطلب حكومة وحدة وطنية تمهد الطريق لانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، كما أن غالبية الدول الأوروبية تتخوف بشدة من مخاطر دفع الجيش اللبناني إلى معركة طويلة الأمد مع التيارات الأصولية؛ لأن أية انتكاسة أمنية تقود إلى تفكيكه، وتدمير الدولة اللبنانية، وتحويل لبنان إلى ساحة لمختلف أشكال الصراعات.

لقد أدركت الخارجية الفرنسية، بعد مرحلة طويلة من الانحياز غير المبرر، أهمية الحوار مع جميع القوى اللبنانية، في صفوف الأكثرية والمعارضة والمجتمع المدني . وعبَّر وزير خارجية إيطاليا، ماسيمو داليما، عن توجه مشابه حول أهمية قيام حكومة وحدة وطنية في لبنان، وضرورة الإسراع في تأليفها تلافياً لأي انقسام داخلي على عتبة انتخابات رئاسة الجمهورية. فحكومة الوحدة الوطنية هي المدخل الأساسي لأي حل قابل للحياة، ويتوقع اللبنانيون أن تقتنع فرنسا وإيطاليا وبقية دول الاتحاد الأوروبي بأن انفجار لبنان يفقدها موقعاً متقدماً في الشرق الأوسط احتضن مشروع الحداثة العربية منذ أكثر من مائتي عام، وهو يستحق الدعم الكامل لإنقاذه من التدمير الشامل عبر سياسة “الفوضى البناءة” التي ترعاها أمريكا لخدمة أهداف “إسرائيلية” واضحة.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)