لقد شهدت المجتمعات الإنسانية على مر العصور تجاربَ مريرةً، طالت معظم شعوب الأرض إن لم نقل كلّها، التي قاست وحشيّة الحروب، والإبادات الجماعية، وممارسات العنف الطائفي، والتطهير العرقي، وغيرها من الأمور، التي غالباً ما كانت تُعلن وتُمارس تحت شعارات لاهوتية ودينية، فكان الكائن الإنساني على الدوام، يمنح نفسه حق تصنيف الآخر، ويجد المسوِّغات الدينية؛ لممارسة شتى أنواع العنف تحت شعارات «فاضلة» و «ربانية»، وكانت الأسباب في معظمها عرقيةً أو طائفيةً أو مذهبيةً أو عقائديةً.

ونحن اليوم كبشر، نَصِفُ أنفسنا بـ «أبناء الألفية الثالثة»، ونُصنِّف أنفسنا على أننا «أفراد متحضرون»، في عصر العولمة والانفتاح وغيره من الأوصاف التي نمنحها لأنفسنا بغباء ونقدّم ذواتنا على أننا أكثر فهمًا وعلمًا وتطوّرًا ممن سبقونا، وأننا دعاة حقوق الإنسان وحوار وانفتاح وتعددية فكيف يبدو المشهد الحضاري العالمي اليوم يا أبناء العصر الفريد؟

لاشك في أننا نقف على أبواب أتون محموم/ ونشهد وحشية تفوَّقنا بها على من سبقونا بمراحل، إنها وحشيّة متطورة هجينة، استطاعت أن تتقنع بأبهى الصور وتتخذ من الشعارات أنبلها.

فالأسلحة الفتاكة منتشرة في معظم دول الأرض، والسباقات النووية جارية بامتياز، والتقنيات الوراثية من استنساخ وغيره، من أبحاث سريّة تحاول أن تبحث لها عن وباءٍ مدمرٍ هنا، أو جينٍ مميزٍ هناك؛ لاستخلاص عناصر نخبوية تسود البشرية؛ كلّ ذلك ينذر بكارثة، علمًا أنه يمارس تحت شعارات البحث العلمي السلمي لخدمة الإنسان ليس إلا.

أما الوضع الميداني، فلا يحتاج إلى شرح طويل، فمشروعات الهيمنة والتقسيم مستمرّة على قدم وساق، ففي العراق حمام دم يومي مفتوح، لم تنفع معه لا الخطط الدولية ولا الإقليمية الأمنية منها والعسكرية، وفلسطين أسوأ حالاً، ولبنان على كفّ عفاريت متعددة، والسودان والصومال والباكستان كلها دول لا ندري في أي وقت تشتعل فيها أتون حرب أهلية أو طائفية.

وإن كانت هناك مشروعات دولية كبيرة في المنطقة، فإن المظلة التي تستظل بها في معظم الأحيان دينية وايديولوجية، فغالبًا ما تُمَرر هذه المشروعات عبر اقتتال أبناء الشعب الواحد، والذي يتمّ دائمًا عبر الأقنية المذهبية والشعارات الطائفية، علمًا أنّ الدول الكبرى لا تهتم بالدول الأخرى، إلا بالقدر الذي يمكّنها من تسريع دورة رأس المال، والدورة التجارية للسلع من خلالها وما يمكن أن تستفيد منها من موارد الطاقة، وبالتالي فكون هذه الدول تفرض سلعها ونمط استهلاكها لا يعني أنها تستهدف الآخرين من أجل الاستهداف فحسب، ولكن من أجل السوق؛ لتسريع وتيرة الدورة الربحية للسلعة الرأسمالية؛ ولعل تكنولوجيا الإعلام والاتصال تجهيزًا وخدماتٍ، إحدى الوسائل التي توظفها هذه الدول، فهي توظف فيها الهدف التجاري من جهة، والوسيلة من جهة أخرى، وسيلة تنميط الأفراد والمجتمعات لخدمة الهدف التجاري والجيوستراتيجي لها.

إذاً هذا التسويق لابد له من معتقد يترجمه، فما جاءت به ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال والتحولات المؤسساتية المصاحبة لها، من أبرز المعتقدات الجديدة التي أريد لها أن تكون ديانةالعصر، ومفرداتها العولمة والمجتمع الإعلامي الكوكبي ومجتمع الإعلام والاتصال ومجتمع المعرفة ومجتمع الاستهلاك.

والسؤال المُلِح: لماذا لم يساهم التطور الهائل للاتصال في الحدّ من الحروب «الدينية» و «الطائفية»؟ علمًا أن التكنولوجيا والاتصالات السريعة ساهمت بشكل كبير في تعرف شعوب الارض إلى بعضها بعضاً، وأصبح الإنسان على اطلاع على معظم المعتقدات والحضارات السائدة، ولماذا يبقى المعتقد المحرك الرئيسي في النزاعات؟ وهل المشكل في الدين؟