إذا كانت فكرة الموت هي اللغز الذي حير الإنسان وأربك حياته، ذاك اللغز الذي بدأ مع وجوده على الأرض، فمازال الإنسان يدأب في البحث عن كنه ذلك اللغز. وإذا كانت فكرة الموت هي أحدى الأسئلة الفلسفية الكبرى التي لم يحسم أمر الإجابة عنها، حتى لو أجمعت الديانات السماوية على أن الموت مرحلة انتقالية يفنى فيها الجسد وتخلد الروح، إلا أن عقل الإنسان يتجاوز حتى الحقائق، ولا يستسلم لها، ويبقى الشك أحد مفاتيح الإنجازات الكبرى التي توصل إليها. فهل من يقين أن الإنسان سيبعث أم سيفنى؟

الكثير من البشر يعتقدون أن وجودهم سيختفي، وبموتهم ليس باستطاعتهم أن يكونوا مرة أخرى. وهم إلى فناء.

في فيلم (مجتمع الشعراء الموتى) استوقفتني جملة تقول بما معناه: حين نموت نتحول إلى غذاء للتربة التي سينبت فيها النرجس والورود. ألا تحمل هذه الجملة في معناها صيغة التخفيف من صدمة الموت والفناء؟

إذن هل يمكن أن يكون الموت جميلاً؟ إنهم يجملونه. هم متيقنون من الوكالة غير القابلة للعزل التي منحها الله لهم. يتصورون الجنة كما يريدونها أن تكون، بل ويضمونها، على أنها الملك الشرعي لهم. هي المكان المحجوز بفاكهته وخموره ونسائه العذراوات، هي الخلود، هكذا يجملون الموت لأولئك الشباب الذين جعلت منهم الظروف المحيطة بهم جاهزين لتدارك النقص الثقافي والمعرفي، حين يتوفر لهم من يغسل أدمغتهم ويسوغ لهم قتل البشر للقاء ربهم والسكن بجواره آمنين مطمئنين.

على الرغم من غياب الدراسات الميدانية التي من الممكن أن تبين الوضع الثقافي والاجتماعي والمعيشي للشباب، فإن المتتبع سيكتشف من ملاحظاته، أن معظم الشباب غائبين عن أغلب الفعاليات الثقافية والاجتماعية عن قصد أو غير قصد. وإن المناهج المدرسية بأسلوبها الحالي، تشوه طريقة التفكير والبحث العلمي. والأهم من ذلك انتشار الفكر السلفي الشديد التعصب، وغياب أي فكر علمي، تقدمي، وهذا بدوره يعود إلى ضآلة وضعف الأحزاب السياسية الأخرى التي تنتظر صدور قانون الأحزاب. (ولا ندري ماذا ستفعل بعد صدور القانون) هذه الأحزاب التي أخلت الساحة، تحت إغراء السلطة وإغواء الكرسي. لذلك الفكر الظلامي. وبالتالي فإن قادة هذا الفكر يشعرون بالنشوة والفخر حين، يحولون البشر إلى قنابل بشرية موقوتة، يفجرونها حينما يشاؤون. فيجملون حياتهم ويجملون الموت لأتباعهم. وأنا على يقين أنهم لا يعرفون الدين، ولا يهمهم أن يعرفونه كما يجب.

ذاك الأب المفجوع، الذي سمع نبأ وفاة أو استشهاد ابنه، هو غير متيقن من أنه شهيد، تساءل: شهيد ماذا، ابن العشرين الذي غرر به؟

غاب الشاب عن المنزل، وبحث والده عنه كثيراً، لكنه يئس إلى أن عرف أنه قتل في مكان ما لا ينتمي إلى الوطن، لا ينتمي إلى الله، أو إلى بشر يحبون الحياة، ذرف دموع الحزن على شاب لم يودعه، سادته أقنعوه بحياة أكثر جمالاً، وهو الشاب الذي لم يعش حياته بعد. حين عزيناه، قال: ما يحزنني أن ابني مات ليتركني مع حيرتي: ابني الذي لم يعش حياته هنا هل سيعيشها هناك؟