لطالما نظر اللاجئون الفلسطينيون في مختلف دول الشتات بعين الحسد الى لاجئي سوريا لما تمتع به هؤلاء من مكانة حفظها لهم القانون، تمثلت بالمساواة التامة بين اللاجىء الفلسطيني والمواطن السوري في كل المجالات عدا الانتخاب والترشح لعضوية مجلس الشعب مع الاحتفاظ بالجنسية العربية الفلسطينية.
وبقدر ما توقف الباحثون عند هذه المسألة لدى تناولهم اوضاع اللاجئين في دول الشتات، وعلى الأخص الاردن ولبنان وسوريا، إلا ان اياً منهم لم يتوقف عند الآثار السلبية التي تركتها المساواة – بشكل غير مباشر – على مكونات الهوية الفلسطينية.
ولتلمس آثار ذلك ينبغي مقارنة التغييرات التي طرأت على المجتمع الفلسطيني في سوريا بتلك التي اصابت بنية المجتمع السوري منذ الاستقلال حتى اليوم. اذ ان الكثير من التغيرات التي طاولت هذا المجتمع انسحبت على المجتمع الفلسطيني بحكم القانون المذكور.
حظي اللاجئون الفلسطينيون في سوريا بوضع متميز مقارنة بنظرائهم في دول الشتات منذ مرحلة مبكرة، وتحديداً منذ العام 1956 تاريخ صدور القرار 260 الذي ساوى اللاجىء الفلسطيني بالمواطن السوري.
في ذلك التاريخ لم يكن تعداد الفلسطينيين يتجاوز المئة ألف توزعوا على بعض المخيمات التي بلغ تعدادها بعد "نكسة حزيران" خمسة عشر مخيماً.
وساهم القانون المذكور بالاضافة الى المساعدات التي كانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" قد بدأت بتقديمها في تحسين أوضاع اللاجئين بشكل كبير، وخصوصاً على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، لتشهد الفترة اللاحقة في نهاية الخمسينات وبداية الستينات ولادة تنظيمات المقاومة.
لكن آثار القانون 260 السلبية ستظهر بعد ذلك بسنوات مع تسلم "البعث" للسلطة وفرض قوانين الطوارىء التي ستشمل اللاجئين الفلسطينيين بحكم المساواة المفروضة، وستزداد هذه الآثار على اللاجىء الفلسطيني لارتباطه بقيادة آخذة بالصعود وقفت منذ البداية موقفاً معارضاً لمحاولات "البعث" السيطرة على القرار الفلسطيني. وليظل التأرجح في العلاقة مستمراً مع تربع الرئيس الراحل ياسر عرفات على عرش "منظمة التحرير الفلسطينية" في نهاية الستينات وتسلم الرئيس الراحل حافظ الاسد السلطة في سوريا في العام 1970.
ورغم دعم "البعث" فصائل المقاومة الفلسطينية إلا ان الخلاف الذي كان يتعزز يوماً بعد يوم كان لا بد أن يصل حد القطيعة مع التباين الكبير في برامج الأخوة الاعداء، وهو ما حصل بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، وطرد "فتح" من لبنان ودعم سوريا انشقاق ما بات يعرف بـ"فتح الانتفاضة".
كل ذلك القى بظلاله على الأوضاع السياسية للاجئين الفلسطينيين في سوريا، اذ لم تستطع فصائل المعارضة على اختلاف انتماءاتها سد الفراغ السياسي الناجم عن غياب "فتح" عن اوساط اللاجئين، خصوصاً ان المخيمات حكمت في تلك الفترة بقبضة من حديد نظراً الى ما كان النظام السوري يتعرض له من ضغوط داخلية وخارجية.
اليوم وبعد مضي ربع قرن على غياب "فتح" تبدو صورة المخيمات الفلسطينية في سوريا مختلفة جداً عما كانت عليه، وربما كانت حال مخيم اليرموك الذي يضم ما يقارب ربع اللاجئين البالغ عددهم 550 الفا الأكثر تعبيراً عن تلك الاختلافات. فالمخيم الذي شكل في السابق مركز استقطاب كبير لأبناء المخيمات الاخرى كما لكل الناشطين السياسيين في سوريا، بات سوقاً تجارية كبيرة تمتد من بدايته حتى نهايته، مروراً بتفرعاته الجانبية. محال تجارية وصل سعر بعضها الى أرقام خيالية تجاوزت النصف مليون دولار، مملوكة في الغالب من تجار سوريين تنبهوا الى القفزة الكبيرة التي يشهدها المخيم منذ منتصف الثمانينات.
ولم يستقطب المخيم رؤوس الأموال فحسب بل استقطب المواطنين السوريين ايضاً ومن مختلف المدن السورية. وبعدما كان وجود اي ساكن سوري بين ازقة المخيم يشكل استثناء، اصبح وجود الفلسطيني في بعض التوسعات هو الاستثناء.
وبالتزامن مع ذلك بدأ مخيم اليرموك يشهد حركة نزوح فلسطينية كبيرة في اتجاه احياء جديدة على أطراف العاصمة دمشق، لأسباب يأتي في مقدمها النمو السكاني الكبير وارتفاع اسعار العقارات في المخيم. ولم يتوقف النزوح عند الأسر الفقيرة فقط وانما شمل ايضاً تلك التي شهدت تحسناً اقتصادياً ولكن في اتجاه اماكن اكثر رقياً.
وبالتزامن مع ذلك ازدادت اعداد اللاجئين الفلسطينيين الذين دخلوا سوق العمل السورية وعلى الاخص في القطاع الوظيفي نتيجة لارتفاع نسبة حملة الشهادات العليا في اوساطهم. وهو الأمر الذي أتاح ارتفاع معدلات التزاوج مع المجتمع المضيف بشكل بدأ يصبح لافتاً في الآونة الأخيرة (لا تتوافر احصاءات توضح ذلك حتى اليوم).
ربما لم يصل الأمر حد الأزمة بحسب "لجان العودة" التي انتشرت كالفطر في الأعوام القليلة الماضية. لكن هذه التغييرات تركت آثاراً كبيرة جداً على صعيد بنية المجتمع الفلسطيني في سوريا تحتاج للكثير من الدراسة والبحث، وهو ما لم تقم به اي من هذه اللجان.
ويبدو التغير الاكبر هو ذاك المتعلق بالمخيمات التي قدمت أكثر من أحد عشر الف شهيد على امتداد تاريخ الثورة الفلسطينية، والتي لطالما كانت متقدمة على الأوساط السورية في الحراك السياسي والتنظيمي الكبير الذي استمر منذ نهاية الخمسينات وحتى العام 1982. وشكلت طوال العقود الماضية المكان الذي استطاع الفلسطيني من خلاله صون هويته من الضياع، عبر الحفاظ على الحد الادنى من الموروث والعادات والتقاليد واللهجة.
لم يتبقّ من تلك المخيمات سوى القليل من الذكريات وبعض ملصقات الشهداء التي تآكلت بفعل الزمن، اضافة بالطبع الى شعارات وملصقات شهداء حركة المقاومة الاسلامية "حماس" التي استغلت غياب "فتح" ومؤسسات "منظمة التحرير" المستمر منذ العام 1982 لتنفرد بأوساط اللاجئين الفلسطينيين في سوريا وتلك حكاية أخرى.
باختصار يمكن القول إنه ثمة العديد من المؤشرات التي اذا ما أخذت في الاعتبار من قبل أي باحث اجتماعي محايد فإنه سيخرج بنتائج ستشكل صدمة كبيرة لتعارضها مع استطلاعات الرأي "الصحافية" التي لا ترتكز الا على السؤال عما اذا كان الفلسطيني لا يزال متمسكاً بحق العودة ام يقبل بالتعويض!
ربما هنا تحديداً ينبغي على "لجان العودة" ان تركز عملها، لا أن تتصدى لمشاريع التوطين الوهمية، فهذه مسألة يفترض باللاجئين التصدي لها. لكن التساؤل الذي يبرز هنا هو: هل باستطاعة هذه اللجان ان تعلن ان جوهر المشكلة يتركز في غياب التمثيل السياسي للاجئين الفلسطينيين؟!
عقب "غزوة غزة" قال محمود درويش في نصه المُدمي المنشور في صحيفة "الحياة" بعنوان "يوميات": "الهوية هي ما نورث لا ما نرث، ما نخترع لا ما نتذكر".