باتت القيادة الاسرائيلية مقتنعة أكثر من أي وقت مضى بإطلاق الرسائل الشفهية والمكتوبة عبر الأثير ومن خلال المندوبين إلى العاصمة السورية دمشق للبدء بمفاوضات سلام مع الجارة الشمالية الشرقية التي باتت قلعة الممانعة والاكثر تسليحا وتخزينا للصواريخ والطائرات الاكثر تطورا في مصانع التصنيع العسكري في دول العالم.

رئيس الولايات المتحدة الاميركية جورج دبليو بوش أوضح علانية أنه غير مهتم بالتدخل في هذه القضية تاركا لقادة الدولة العبرية اختيار الأنسب وما تراه مناسبا لسياساتها المستقبلية أما رئيس وزراء اسرائيل يهود اولمرت فلديه امور اكثر الحاحا والرئيس السوري الدكتور بشار الاسد كما هو معروف جيدا يملك خيارا عسكريا حقيقيا ضد اسرائيل اضافة لامتلاكه نفسا طويلا واجادة وقراءة جيدة للمعطيات وهو ما يسبب ارباكا للاسرائيليين جميعا حينما اعلن مؤخرا وبشكل صريح بأن التوجه الى الحرب مع اسرائيل لتحرير الجولان بات في مراحله الاخيرة اذا لم تتحرك الاخيرة وتعترف بالحق السوري.

التاريخ مازال حيا والشواهد ماثلة رغم تبدل اللاعبين قسرا أو بقضاء الله وقدره لكن الهاجس بقي على حاله والفكر منصب نحو الجولان المحتل بعدما بات الاصبع على الزناد وبكبسة زر قد تلتهب المنطقة ويصبح من الصعب على أميركا ومن يقف معها حماية النظام الاسرائيلي من جولة لن تكون هذه المرة كسابقاتها وقد جاءت جولة حزب الله الاخيرة في لبنان السنة الماضية بأنها بروفة حقيقية لما قد يكون اكبر وأشمل هذه المرة بوجود العملاق النووي الايراني الذي يريد هذه الجولة سريعة وفق قراءات الجنرال علي شمخاتي الذي يسعد دوما بزيارة القنيطرة كلما حانت الظروف لزيارة سوريا.

من المعيب ان قيادات وجنرالات العدو الاسرائيلي لا تقدر الامور بميزان العقل فالحروب القادمة لن تكون كلاسيكية كالجولات التي كانت تقودها اسرائيل على حساب الانهزام العربي وروح الخنوع انما هذه المرة الصغار كبروا والتململ داخل القطاعات العسكرية السورية بات واضحا ورائحة النصر تفوح في أنوف الجنود والضباط السوريين الذين يتمنونها سريعة هذه المرة ولذلك لا يمكن لإسرائيل ان تفعل ماتشاء مثلما كانت تسرح وتمرح في السابق بسبب الخذلان العربي وحتما ستدفع اسرائيل هذه المرة ثمنا باهظا.

قبل هزيمة سبعة وستين الاليمة ومقبرة السلاح العربي هيمنت على جهاز الامن الاسرائيلي نظرية جاهزة مفادها انه طالما كان ثلث الجيش المصري عالقا في حرب أهلية طويلة في اليمن فليس لدى الراحل جمال عبدالناصر خيار عسكري في مواجهة اسرائيل. هذه النظرية اجتازت سلسلة محكات واختبارات قامت خلالها اسرائيل بتصعيد الصراع مع سوريا، الامر وصل الى ذروته مع إسقاط طائرات الميغ 21 السورية الست والتي سقط بعضها فوق دمشق في معارك جوية جرت في السابع من إبريل من تلك السنة المشؤومة وقبلها يتذكر الكثيرون ما فعل العرب أمام الهجوم الاسرائيلي على القرى الاردنية المتاخمة للحدود مع الضفة الغربية المحتلة وتنكيله آنذاك الجيش الاردني فما كان من الجيش المصري وقائده ناصر الا التفرج على العلق المثيرة التي تلقها رجال الراحل الحسين بن طلال والسبب ان جيش العروبة كان منشغلا في حرب خاسرة سلفا في اليمن السعيد.

المأساة العربية استمرت بسبب ضياع الجيوش العربية آنذاك في مغامرات ليست في مكانها الطبيعي وهذا لم يكن مفاجئا لقيادة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية التي درست حينها كل الخيارات حينما زج عبدالناصر بجيشه في سيناء وعلمكم كفاية ماذا حل بجيش الأمة حينما اتخذ أبو خالد قراره السياسي الذي يتناقض حينها مع المنطق العسكري بسبب ضغوط الشعوب والانظمة العربية عليه حتى يقوم بشيء ما لكبح ما بدا واضحا وجليا من غطرسة اسرائيلية فطفح الكيل.

اسرائيل التي كانت تخوض الحروب بمعرفة تامة ان السوفيات آنذاك لن يتدخلوا لمصلحة الجيوش العربية بسبب الضغوطات التي يمارسها اليهود الروس وما يتم الاتفاق عليه بين العملاق السوفياتي والولايات المتحدة لاقتسام الكعك في مختلف دول العالم.

كل محاولات التوصل الى تسوية جزئية أو كاملة ضاعت في أكتوبر ثلاثة وسبعين بحيث اعتبرت اسرائيل الواهمة ان إسدال الستار على العملية السياسية لا ينطوي على مخاطر عسكرية حقيقية لأن العرب كما هو معروف لدى العالم أجمع لا يمتلكون خيارا عسكريا وهو ما حدا بشعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية بحسبة خاطئة قبل أيام قلائل من اندلاع حرب السادس من أكتوبر ثلاثة وسبعين حينما قدر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية ان مصر لا تستطيع الخروج في حرب شاملة خلال السنوات الخمس القريبة وقدر وزير الدفاع آنذاك موشيه دايان ان الدولة العبرية لن ترى حربا كبيرة خلال السنوات العشر القادمة. وحينئذ أطلت الحرب برأسها وتبين لليهود كيف تدفع الدولة العبرية ثمن الخطأ الذي يركب رؤوس قيادييها الواهمين بأن الطرف الآخر لا يملك خيارا عسكريا.

الوضع اليوم لا يختلف كثيرا وصحيح ان الجيش الاسرائيلي أقوى من الجيش السوري إلا أن ذلك لا يعني انه لا يمتلك القدرة على إيلام اسرائيل وان السوريين لن يستخدموه مرغمين رغم المخاطر التي ينطوي عليها ذلك وربما قد تكون الضربة الاستباقية مؤلمة جدا وتحد من قدرة الجيش الاسرائيلي على التحرك.

المشكلة في أن المنطق العسكري الذي يسيطر على التفكير الاستراتيجي الاسرائيلي يميل الى تهميش وزن الاعتبارات السياسية التي تدفع سوريا الى التوجه الى طريق القوة. اذا حدثت مثل هذه الانعطافة واذا دفعت اسرائيل ثمنا باهظا من جراء ذلك فسيكون بإمكان الصهاينة الجلوس لسنوات طويلة والنحيب حينما لا ينفع حينها ندم بعدما تنسى الدولة العبرية الخسارة السياسية والعسكرية التي ستلحق بمفاصلها انطلاقا من عدم وجود خيار عسكري لدى جنرالاتها والثمن المؤلم الذي ستدفعه اسرائيل ومستوطنmها الذين سيلعنون حتما الساعة التي غرر بهم وانقادوا خلف كذبة تاريخية الى وطنهم الاصلي اسرائيل.

التململ الاسرائيلي بات كبيرا تجاه السلام مع سوريا فبعد أولمرت وبيريتس والعديد من القيادات الاسرائيلية التي تنشد السلام حقيقة مع سوريا تطل وزيرة المعارف البروفيسور يولي تيميز من منبر خاص بالموافقة على توقيع اتفاقية سلام مع سوريا باعتبارها خطوة مهمة من أهم ما يمكن ان تكون قامت به اسرائيل عبر تاريخها وهو ما ستؤيده السيدة تمير دون تردد.

وكانت صحيفة هآرتس قد نشرت الثلاثاء الماضي تقريرا مفاده ان رئيس الحكومة ايهود اولمرت نقل رسالة جديدة الى سوريا بشأن امكانية استئناف المحادثات بين البلدين وجاء التقرير الذي نشرته صحيفة هآرتس بعد ان اكد مسؤولون في الايام القليلة الماضية ان اسرائيل تستخدم قنوات سرية في اختبار ما اذا كان يمكن استئناف المحادثات التي تعثرت في عام 2000.

وكانت الصحيفة الاسرائيلية قد نقلت عن مصدر سياسي اسرائيلي لم تكشف عنه قوله ان اولمرت نقل تصريحات تحتوي على تلميحات مثيرة للاهتمام الى وزيرة الخارجية اليونانية دورا باكويانيس يوم الاثنين قبل ان تتوجه الى دمشق.

هذه الاخيرة تعرف تماما ووفق صحفها اليومية ان اسرائيل قد تشن حربا في المنطقة هذا الصيف وان سوريا قد تكون المستهدفة. وقالت صحيفة الثورة في افتتاحيتها ان اسرائيل وبتحريض من الولايات المتحدة قد تعمل على اثارة حرب لتحسين صورتها العسكرية بعد حرب لبنان. وأضافت ما تقوم به اسرائيل من مناورات عسكرية في الجولان ثم تقول ان سوريا هي التي تنوي شن حرب على اسرائيل ولا أحد بالنسبة للسوريين يشك بأن اسرائيل تمتلك من العدوانية ما يجعلها تتوقع منها شن الحروب في كل الاوقات.

فهل تتعظ الدولة العبرية من كل ما حدث ويحدث وتنصاع للحكمة والعقل وتعيد الجولان الى أصحابه أم ان جنون العظمة مازال يركب رؤوس جنرالاتها وبات المخرج الحقيقي لهم هو فتح جولة مع سوريا لاستعادة الثقة التي اهتزت أخيرا بعد الهزيمة النكراء أمام حزب الله في الصيف الماضي وفي هذا الوقت بالذات.

مصادر
الوطن (قطر)