لم يمض وقت حتى خبت بسرعة قياسية الآمال الواهمة التي علقها الراكضون وراء سراب أوهام الحلول الأمريكية المزمعة في المنطقة... الأمريكان بأنفسهم سارعوا إلى إطفاء جذوتها الواهنة... أطلق الرئيس الأمريكي مبادرته أو مقترحه حول عقد اجتماع دولي برئاسة وزيرة الخارجية كونداليسا رايس يشارك فيه إلى جانب إسرائيل والسلطة الفلسطينية عدد لم يسمه من الدول العربية. وحيث قسّم كعادته الفلسطينيين إلى متشددين ومعتدلين، قال أنهم أمام "لحظة خيار حاسم". وإذ رأى فيما جرى في غزة صراع بين هذين الطرفين، دعا المتشددين، الذين هم هنا حماس، إلى "نبذ العنف والإعتراف بحق إسرائيل في الوجود، والالتزام بالاتفاقيات السابقة" المعقودة مع إسرائيل، ولم ينس أن يحث الدول العربية التي لم توقع سلاماً مع إسرائيل بعد، على "وضع حد لوهم عدم وجود إسرائيل"، وطالبها "بوقف التحريض على الحقد في إعلامها الرسمي وإرسال زائرين على مستوى وزاري إلى إسرائيل"... هذا هو جوهر ما طرحه الرئيس الأمريكي في خطابه الذي ورد فيه المقترح الذي يحلو لكثيرين تسميته بالمبادرة. بيد أنه لم يمض يوم واحد حتى بدأت التصريحات الأمريكية الصادرة عن البيت الأبيض في التقليل من حجم التوقعات المترتبة على ما أزمع الدعوة إليه، أو ما بدى وكأنما هو يتصدى للمغالاة في تعليق الآمال التي من الممكن أن تعقد عليه... مثلاً، طوني سنو، الناطق باسم البيت الأبيض، سارع إلى التوضيح، الذي كان نقيضاً لما سبق وأن وصفه بنفسه سابقاً، قال: أنه "ليس مؤتمر سلام كبير... أنه سيكون لقاء... اجتماع لأشخاص لهم مصلحة... وسيكون طوني بلير ممثلاً للرباعية"... كما أنه "من السابق لأوانه القول أين ومتى سيعقد"!

هذا ما كان من البيت الأبيض، أما من خارجه، فتكفي الاشارة، على سبيل المثال، إلى أن شخصاً مثل دنيس روس لم يرى في اللقاء أو الاجتماع المقترح إذا ما تم سوى "حدثاً رمزياً" لا أكثر ولا أقل...

... ومع ذلك رأى بعض العرب في الأمر "خطوة في الاتجاه الصحيح... فماذا رأي الإسرائيليين في هذه الخطوة؟!

لقد نظروا إليها من زاويتين: الأولى، تطبيعية، عندما أشاروا إلى وجوب أن تحضر اللقاء المقترح دول عربية لا علاقات ديبلوماسية بينها وبين إسرائيل، والثانية، إنها، وفق ما قالته المتحدثة باسم رئيس الوزراء أولمرت، تشكل "مظلة ممتازة لدعم الفلسطينيين المعتدلين" ضد المتشددين!

وإذا ما وضعنا في الحسبان أن مثل هذه المبادرة، أو هذا اللقاء، أو هذا الاجتماع، المفترض أنه سيكون، حسب ما يزعم، حول بحث سبل حل الصراع الدائر في فلسطين، يجيء في ظل إنتفاء أي تغيير في المواقف والسياسات والاستراتيجيات الأمريكية-الإسرائيلية المشتركة، وفي ظل الحاجة إلى تهدئة على الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية للتفرغ للاستحقاقات العراقية ومعالجة الملف النووي الإيراني... وأضفنا إلى هذا دعوة بوش المشار إليها إلى حماس لإيقاف المقاومة، والاعتراف بإسرائيل، والإلتزام باتفاقات أوسلو والقبول بما أفضت إليه، وحثه الدول العربية على التخلي عن أوهامها حول وجود إسرائيل، ووقف التحريض وإرسال وزرائها إلى تل أبيب... وأخيراً رؤية إسرائيل لوظيفة اللقاء التي مررنا بها آنفاً، نصل دونما عناء إلى نوع من الإتفاق مع استنتاج وصلت إليه حتى صحيفة إسرائيلية هي "يدعوت أحرونوت"، التي قالت:

لقد "قتلوا فكرة المؤتمر قبل أن تنطلق"، ومع ذلك فهم يوالون "بث الإحساس بأن الأمور تجري كالمعتاد" ..!

لماذا يقتلون فكرة هم من أطلقها، ويواصلون الإيحاء بتمسكهم بها؟

إنه اللعب في الوقت الضائع ... 18 شهراً فقط بقيت للرئيس بوش ليقضيها في البيت الأبيض، التحضير للانتخابات الرئاسية الأمريكية بدأ من الآن، بوش يريد تسليم الراية الإستباقية لمن يخلفه دون أن يسجل على نفسه تراجعاً أمام حملات الديمقراطيين الذين يوالون طرح مشاريعهم لانسحابات غير كاملة من العراق، الهدف منها تقليل الخسائر البشرية والمادية فحسب... هذه الحملات والمشاريع التي تتحطم رغم تواضعها على صخرة عناده وإصراره على كسب كافة أشكال حروبه الكونية، مستفيداً أيما استفادة من تحمّل لازال بادياً بعد من قبل الأمريكيين لكلفة هذه الحروب قد لا يستمر، ومستغلاً أيما استغلال فزاعة أجاد استخدامها لإخافتهم حتى الآن، ومنذ أن جاء إلى تسنم سدة القرار في البيت الأبيض، هي "الإرهاب" و"التطرف الإسلامي"... "الإرهاب" الذي يجهد في تصويره لهم أنه لم يعد الداخل الأمريكي بمنأى عنه، وأنه، أي هذا الداخل، يظل تحت طائلة احتمال تلقي ضرباته المفاجئة!

من هنا، تأتي المبادرات، والبحث عن شبه انجازات. ومن هنا أيضاً، يأتي تقرير السي آي إيه المُضَخِّم لقدرة القاعدة والذي بدا أنه إنما يستحضرها في الوقت المناسب، أو كأنما هذا الإستحضار هو لتوظيفها للرد على مشاريع الديمقراطيين في الكونغرس، وتمهيد مقصود للإفادة منه تحضيراً لمعركة الرئاسة معهم، تلك التي قلنا أنها قد بدأت... وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، التي قال تقريرها قبل عام فقط بأن القاعدة خطر تلاشى ولم تعد تهدد أمن الولايات المتحدة، جاء اليوم ليقول بعكس ما سبق وأن قاله، حذر من هجماتها الجديدة المحتملة داخل الولايات المتحدة، تحدث عن إعادتها لتنظيم صفوفها وتطويرها لقدراتها الأمر الذي سيمكنها من شن مثل هذه الهجمات المتوقعة... وزاد، فنبه إلى أن المسلمين المتطرفين هم في الغرب إلى ازدياد، في حين أن الحلفاء للولايات المتحدة في حربها الكونية على ما يسمى الإرهاب هم إلى تناقص...

هنا، ربما يقول قائل، لعل الديمقراطيين سوف يفيدون أكثر من الإدارة من ثبات عدم جدية مبادرة بوش، و من استخدام تقرير وكالة الاستخبارات المركزية المستحضرة لفزّاعة "الإرهاب"، ووضع كافة القوى التي يصنفها الأمريكان إرهابية في سلة القاعدة. لعل في هذا القول بعض صحة، ولكن يبقى الأمر بالنسبة لهم وللإدارة على السواء هو ما يمكن وصفه مرة أخرى بإنه اللعب في الوقت الضائع... لقد وظفوا ماتقدم ما استطاعوا ضد ما دعوه بالحرب "المضللة" في العراق، قالوا أن قواتنا تحارب في المكان الخطأ ولابد من انسحابها... لكن ليس انسحاباً كاملاً، وإنما بعضه لتقليل الخسائر. وقالوا، أن تقرير وكالة المخابرات المركزية المشار إليه دليل على فشل سياسات بوش، وأن العالم الآن أكثر رعباً، حذروا من اهتزاز زعامة بلادهم للعالم، لكنهم، رغم ذلك، هم من ظل حالهم حال من لم يطرح بديلاً، وظلوا هم الذين لم يعترضوا يوماً على استراتيجيات بلادهم الهيمنية الكونية ولا على سياساتها الخادمة لهذه الإستراتيجيات. وعليه، هم يعترضون على أداء مقاولي الإرهاب، وليس على سياساتهم..!

إذن، الجمهوريون والديمقراطيون، كل يحاول توظيف فقاعات المبادرات ومسلسل التقارير الموجهة التي ستتوالى خلال الثمانية عشر شهراًالقادمة، لكسب جولة يشتد التحضير لها في كنف الوقت الضائع... الوقت الضائع الذي رغم شهوره الثمانية عشر فحسب، هو الأخطر على مصائر المنطقة، وربما يتعداها إلى ما يؤثر على مصير عالم بكامله يعيش مرحلة إنتقالية شديدة الهيجان تسبق انتقاله المحتوم من حقبة أحادية القطبية إلى تعددها...

أطلق بوش مبادرة، ثم قلل من حجم التوقعات المعلقة عليها، سارع أولمرت الذي يعاني من آثار "إخفاقات" في الحرب الأخيرة على لبنان، تقول لجنة " فينوغراد" أنها "كبيرة وغير مقبولة"، للإفادة منها تطبيعياً... وأيضاً محاولة الإفادة المعتادة من الوقت الضائع إياه، لمزيد من التهويد، وتصفية القضية الفلسطينية... إنها مبادرات مضللة تجيء على هامش حروب "مضللة" يوظفها مطلقوها ومعارضيهم في وقت ضائع... وقت يمتد لثمانية عشر شهراً فحسب، لعلها الأخطر في حقبة آخر فترتين رئاسيتين شهدهما البيت الأبيض!