تترى الأجيال البشرية وتتعاقب، يزرع أولها ويقطف ثانيها، ويواصل الزرع، وهكذا دواليك هي سنة حياة بني البشر.

ولدى الفلسطينيين، كان للزرع والقطاف معنىً اضافي، فرضته تحديات اقتلاع الشعب وابتلاع الأرض واغتصاب الحقوق، إنه معنى تقديم التضحيات، دأبت الاجيال الفلسطينية على تقديمها تباعاً، ليصنع الفلسطينيون بذلك، وبما تيسر مِن دعم أبناء الأمة، ملحمة تضحياتٍ للحرية، قلَّ نظيرها، بحسبان تعرضهم لاحتلال استثنائي في عنصريته، كان منذ النشأة احتلالاً استئصالياً، مارس سياسة التطهير العرقي بكل معنى الكلمة، ناهيك عن ضخامة جرائمه الحربية، وبشاعة ممارساته القمعية، وطول مدته، منذ ستين عاماً، سبقتها ثلاثة عقود، واجه الفلسطينيون خلالها قسوة التمهيد لوقوع “نكبتهم”؛ قيام الكيان الصهيوني عام 1948.

تضحيات الفلسطينيين أكبر مِن أن يعكسها تعدادها الكمي، كالقول: اقتلاع أكثر مِن نصفهم، ما زالوا لاجئين ونازحين ومشردين، وسقوط قرابة مائتي ألف مِن الشهداء، وأضعاف أضعافهم مِن الجرحى والأسرى. فتلك أرقام احصائية صماء، لا تتكلم عما يرقد في جوفها مِن نبض حياتي تحرري هائل، سكبه الفلسطينيون بجماعية، طواعية وعن طيب خاطر، مِن أجل انتزاع “الحرية مِن” freedom from اضطهاد خارجي (الاحتلال)، ومِن أجل نيلِ “الحرية إلى” freedom to بناء مجتمع ديمقراطي خالٍ مِن الاضطهاد الداخلي (سلطة قاهرة)، أي مِن أجل نيلِ التحرر emancipation، الذي لا يكتمل إلا عبر الربط بين “الحرية من” و”الحرية إلى”. فنيل الأولى لا يعني احرازاً تلقائياً للثانية، إلا إذا أنتج النضال ضد سيطرة خارجية نفياً لثقافة السيطرة على الصعيد الداخلي.

والخلط بين تلك المقولات، يقود إلى تقهقر تضحيات “الحرية مِن” ونكوصها، ما يُحَوِّلها إلى عامل إعاقةٍ للتحرر، ويجعل المضْطهَد مضْطهِداً، سيان خارج هويته، و/أو داخلها. فالاضطهاد علاقة استغلالية بمعزل عن هوية طرفيها، وتبريراتها، وسبل تسويقها في الوعي البشري. وتجربة اليهود مجرد مثال بارز، فقد تخلصوا مِن اضطهاد “أغيارهم”، لكن جزءاً منهم مارس، وما زال يمارس الاضطهاد ضد الغير (الفلسطينيين)، بصورة اعنف مما وقع ل “اليهود” من اضطهاد.

يرى الفكر التحرري المنسجم في تحوُّل تضحيات “الحرية مِن” إلى عامل اعاقة في وجه التحرر الذاتي، شكلاً مِن اشكال الاغتراب alienation، هو الاغترب السياسي، يتحول معه الجهد الفيزيائي والذهني لمناضلي الحرية (التضحيات)، إلى قوة غريبة عنهم، تقف قبالتهم، تسيطر عليهم، يخشونها، وتتجسد في صورة سلطة سياسية قاهرة، تقمعهم، من دون أن يدروا، إنما هم يواجهون جهودهم (تضحياتهم) التي بذلوها مِن أجل تحررهم.

ذلك تحصيل حاصل منطقي، للسلوك القيادي الاستعمالي في ادارة حركات التحرر، وتضحيات مناضيلها الجماعية، أجْتَهِدُ وأسمِّيه ب”التسليع السياسي” لهذه التضحيات.

تلك نتيجة قاسية، عندما تقع لمناضلي “الحرية مِن” اضطهاد خارجي، بعد انتزاعهم للاستقلال الوطني السيادي الناجز مِن المحتل الأجنبي، فما بالك إن هي وقعت قبل ذلك؟ وهذا بالضبط وتماماً ما يحصل هذه الأيام، مع مناضلي الحرية الفلسطينيين، في الضفة الغربية، حيث تلاحق “سلطة” “فتح” مناضلي “حماس”، وفي غزة، حيث تلاحق “سلطة” “حماس” مناضلي “فتح”. ولا ينفع لتخفيف غلواء قمعية “السلطتين” الوهميتين، ما يجري على الأرض مِن تنكيل احتلالي، يجري على قدم وساقين، ضد الجهتين، بل يستبيح كل ما هو فلسطيني على مدار الساعة.

والحال؛ هل يمكن فهم ذلك بمعزلٍ عما يسود العمق الرسمي العربي للقضية الفلسطينية مِن عجز وتفكك، كانعكاس لغياب مشروع قومي نهضوي سيادي مستقل عن الارادة الأمريكية، دعمت على بياض، وما زالت تدعم خطة “إسرائيلية” لفرض الحصار السياسي الاقتصادي على الفلسطينيين، علاوة على أن ممارسات الذبح العسكري، لم تتوقف، بل تشهد تصعيداً يوماً اثر يوم؟ كلا، فالعلاقة بين الأمرين واضحة وجلية.

ولكن، وحتى لا تستغرق النخب القيادية الفلسطينية في منهجها التبريري، لجهة قراءتها لأزمتها الداخلية، فإن عليها مواجهة الحقيقة كما هي من دون زيادة أو نقصان، عبر الاجابة عن سؤالين جارحين، فحواهما: هل يمكن تفسير ما يجري على الأرض الفلسطينية مِن تيه وطني، من دون الاشارة إلى ادقاع الوعي الوطني، لدى النخب القيادية الفلسطينية، سيان في الضفة وغزة؟ وهل يمكن فصل ما يجري مِن سلوك سياسي استعمالي لتضحيات الحرية الفلسطينية، عن بؤس الثقافة السياسية لهذه النخب القيادية الفاعلة، أعماها جشع “السلطة”، ونهم “الحُكْم”، عن حقيقة أن الأرض ما زالت محتلة، وأن الشعب لم ينل حريته واستقلاله وعودته بعد، بل ما زال المشوار لبلوغ ذلك طويلاً شاقاً ومريراً، زادته حالة الانقسام السياسي والمؤسساتي، بين الضفة وغزة شدة على شدة، حتى لا أقول التباساً وغموضاً؟ أيضاً كلاً، إلا إذا كان يمكن تغطية الشمس بغربال.

إن ملاحقة مناضلي الحرية الفلسطينية في الضفة وغزة، وبلوغ ذلك درجة ترسيمه، عبر وضعه في صيغ “قانونية” تحظر التعبير عن الرأي، إلا بالحصول على إذن مسبق مِن هذا الجهاز الأمني أو ذاك، تشكل أمراً خطيراً على مناضلي الحرية الفلسطينيين، وتنذر فعلاً بتبديد تضحياتهم، على مدار قرن مِن الزمان، ويهدد بانفصال (اغتراب) تلك التضحيات عن هدفها التحرري، وهدف باذليها، ويُحَوِّلها إلى “سلطة” داخلية قاهرة، انشطرت إلى سلطتين، هما عاجزتان عن مواجهة الاحتلال، واستكمال مشوار الخلاص منه، فيما تمارسان القمع الداخلي المقنون بمراسيم تصدرها “سلطتا” الضفة وغزة، هما، ورغم كل ما تحاطان به مِن هيبة زائفة، سلطتان وهميتان صوريتان، لا سلطة فعلية لهما ما دام الاحتلال على الأرض جاثماً

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)