swissinfo

رغم ما تبدو عليه خطوة عودة العلاقات الدبلوماسية بين سوريا والعراق من اختراق سياسي مهم، فإن تأثيرها الكلّـي لا يزال مرتبطا بما يجرى على ساحات أخرى، سواء في واشنطن أو بريطانيا أو تل أبيب، وبالطبع في طهران.

فهي التي تمسك الآن بالكثير من عناصر اللعبة الأمنية والسياسة في العراق، ولحسابات إيرانية خاصة جدا، ولكنها قد تضر - وهنا المفارقة الكُـبرى - بحليفها المهم عربيا والموجود في دمشق.

دون عناء في الفكر، يُـمكن للمراقب القول بأن ثمة علاقة وثيقة بين تحرّكات سوريا الأخيرة تُـجاه العراق، وبين ما يجري في واشنطن، كما أن هناك علاقة وثيقة بين جُـمود عملية السلام ومحاولات عزل سوريا، التي قامت بها إدارة الرئيس بوش ولا تزال، وبين الورطة الكبرى التي تعيشها القوات الأمريكية في العراق والفشل الذريع، الذي يتأكّـد يوما بعد آخر، لما يُـعرف بمشروع نشر الديمقراطية الأمريكي في العراق والشرق الأوسط ككل.

فالملفات الكبرى في المنطقة مُـترابطة ومتداخلة على نحو كبير، ومن لا يفهم ذلك أو يحاول أن يتعامل مع كل ملف باعتباره شأنا مستقلا بذاته، يُـحقق الخسارة والفشل لنفسه، ويحقق الخراب وعدم الاستقرار للإقليم ككل، ويزيد من التوترات الموجودة فيه.

هذه النتيجة، التي يبدو أن مجموعة دراسة العراق، التي يرأسها وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر، قد توصّـلت إليها أو تعمل على هديها بهدف تقليل الخسائر التي تُـمنى بها السياسة الأمريكية في المنطقة، تمثل أحد مفاتيح فهم ما جرى مؤخرا، سواء من انفتاح نسبي أوروبي تُـجاه دمشق، تقوده إسبانيا وإيطاليا وشاركت فيه بريطانيا لاحقا، وأيضا قيام وزير الخارجية السوري وليد المعلم بأول زيارة لبغداد في عهدها الجديد، والتي انتهت بإعلان عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد قطيعة دامت 26 عاما متصلة.

بيئة إقليمية وتنافس تاريخي

وعلينا أن نضيف هنا، أن البيئة الإقليمية والدولية، وإن ساهمت في عودة العلاقات السورية العراقية في هذا التوقيت بالذات، فإن خصوصية علاقة البلدين يمكن أن تفسّـر الكثير من بعض الأمور التي تبدو عصية على الفهم أحيانا.

فكل من سوريا والعراق يَـعتبران نفسيهما في حالة تنافس تاريخي ومستقبلي في آن واحد. وفي هذا السابق، انحصر التنافس حول من يقود حركة بعث الأمة العربية، والآن يتحوّل التنافس إلى من يقود الاستقرار الإقليمي، ومن يحظى بثقة القوى الكبرى ويتفاعل معها من أجل نفسه ومن أجل طموحاته الذاتية بالتنسيق مع من بيدهم القرار أو جزء كبير منه.

من العزل إلى بداية الإدماج

وعلى الرغم من الضغوط، التي تعرضت لها سوريا والتي زادت حدَّتها مع حدوث جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري في فبراير 2005، والتي أدت في النهاية إلى خروج القوات السورية من لبنان بعد حوالي ثلاثة أشهر من جريمة الاغتيال، فإن سوريا ظلّـت على مواقفها، كما ظلّـت واشنطن على سياستها الرافضة أي تعاون مع دمشق، في الوقت الذي ظل فيه الرئيس بوش يردّد مسؤولية سوريا عن تدهور الأوضاع الأمنية وفشل المشروع الأمريكي في العراق.

وفى الوقت الراهن، تبدو المواقف الأوروبية، التي توافقت مع الضغوط الأمريكية على سوريا وقد تغيّـرت في مُـجملها، إذ تتّـجه السياسة البريطانية إلى فتح حوار مع دمشق باعتبار أن المطلوب الآن، ليس عزل سوريا، وإنما إدماجها في أي عمل يهدف إلى السيطرة على الأوضاع الجارية في العراق، ومنع الحرب الأهلية فيه أن تتفاقم أكثر مما هي عليه الآن، وفتح كوة صغيرة يُـمكن أن تتسع لاحقا في عملية التسوية بين سوريا وإسرائيل.

كما أن الإشارات التي تًـرد من واشنطن بعد فوز الديمقراطيين الكاسح في مجلسي الشيوخ والنواب، وبالرغم من أنها إشارات ضعيفة، ولكنها تعبّـر عن قدر من التحوّل المرتقب في سياسة أمريكا تجاه سوريا في المرحلة المقبلة.

مجمل القول هنا أن التغير الذي لحق بالسياسة الأمريكية والبريطانية جعل الهدف، ليس تغيير النظام في سوريا كما طرح قبل عامين ونصف، على غرار ما جرى في العراق، وإنما مجرّد تغيير سلوك النظام السوري إزاء عدد من الملفات الساخنة في المنطقة، وفي مقدمتها العراق وفلسطين.

من عناصر التحليل السوري

وهنا، يطرح السوريون تحليلهم للأمر من زاوية أن هذا التغيير الأمريكي، الذي لم يتأكّـد بعدُ كسياسة واضحة المعالم، يعود في الأساس إلى الانتصار الاستراتيجي الذي حققه حزب الله في المواجهة مع أقوى جيوش المنطقة أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في الصيف الماضي، وهو العدوان الذي قامت واشنطن ولندن بتغطيته، سياسيا ودبلوماسيا، بُـغية أن يحقق انتصارا مُـدويا، ولكنه لم يستطع رغم فارق القوة العسكرية الهائل مع حزب الله.

ويضيف السوريون عاملا آخر، وهو الفشل الذريع الذي حققه الأمريكيون في العراق، حيث يبحثون الآن عن مخرج من هذه الورطة الكبرى التي تذكرهم بالخيبة والهزيمة المنكرة في حرب فيتنام قبل 30 عاما.

غير أن المحلل المنصف، عليه أن يُـضيف أيضا أن تدهور الوضع الأمني على النحو الذي يَـعيث فسادا في العراق الآن، والذي يُـنذر بحرب أهلية طائفية ضروس ويكشف عن تدخلات إيرانية غير مسبوقة، بهدف إذكاء التوتر الطائفي في كل العراق، قد بات يشكّـل أزمة لسوريا نفسها، فإن حدثت الحرب الأهلية الموسعة في العراق فسوف تمتد لا محالة إلى داخل سوريا نفسها، وهو ما عبّـر عنه وزير الخارجية السوري عند زيارته الأخيرة إلى بغداد، بأن أمن العراق هو أمن سوريا، وأن بلاده تؤيّـد بشكل تام العملية السياسية والحكومة العراقية وجهود المصالحة الوطنية، وهكذا اجتمعت عوامل عدّة دفعت بسوريا أيضا أن تُـعيد النظر في سياستها تُـجاه العراق وتُـجاه الحكومة العراقية وتُـجاه مجمل العملية السياسية الجارية هناك.

من شروط بشار الأسد

لكن الموقف السوري على هذا النحو، لا يعني أنه بلا شروط، فمن جانب، هناك مطلب سوري بأن يكون هناك جدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية من العراق، لأن ذلك يسهّـل عملية المصالحة الوطنية ويساعد قوى المقاومة العراقية، التي تساندها دمشق سياسيا وربما عسكريا أيضا، أن تنخرط في مجمل العملية السياسية.

ومما هو منسوب إلى الرئيس السوري بشار الأسد في حواراته مع المبعوثين الأوروبيين، الذين زاروا دمشق مؤخرا، أن أي تعاون ستًـقدم عليه سوريا في الملف العراقي أو الفلسطيني، لابد أن يكون له ثمن متعلّـق بعودة الجولان المحتل، وأن كل خطوة ستقوم بها سوريا لابد أن تقابلها خطوة أمريكية أوروبية واضحة وليست غامضة أو مجرد وعود غير محدّدة المعالم، كالتي اعتاد عليها الغرب في خداع العرب تاريخيا.

بهذا المعنى، يمكن الاستنتاج بأن سوريا ترى أن الوضع الإقليمي الآن، في ضوء تعثر المشروع الأمريكي في العراق وأزمة إسرائيل الكبرى بعد خيبتها العسكرية في لبنان وفشلها الذريع في قهر إرادة الشعب الفلسطيني فى المقاومة، وتعقّـد الموقف في لبنان دون أن تكون مسؤولة عنه بأي درجة، على الأقل من وجهة نظرها، يثبت صحة رؤيتها في ضرورة البحث في الملفات بصورة صفقة شاملة، كما يؤكد أن دورها الإقليمي بات مطلوبا لأسباب، سياسية واستراتيجية وجغرافية.

الرد من بغداد.. بعض الشروط

لكن هذه النظرة السورية ليست مقبولة تماما من بغداد. فبالرغم من أن عودة العلاقات الدبلوماسية والتعامل بقوة مع الحكومة العراقية يمثل انتصارا للعراق الجديد، لكن هناك مطالب عراقية لم تجد حلاّ بعد، من بينها أن تسلم دمشق عراقيين محسوبين على البعث الصدّامي ومحسوبين على منظمات المقاومة وموجودين لديها، وأن تسوّى مشكلة الأموال العراقية في البنوك السورية، وأن تقوم بجهد إضافي لضبط الحدود العراقية السورية ومنع تسلّـل، ما يعتبره العراق عناصر إرهابية، وهي مطالب تراها دمشق مبالغا فيها، ويمكن البحث فيها عبر القنوات الدبلوماسية، مع التأكيد على أن المصلحة السورية الأولى الآن هي أمن العراق ومنع حرب أهلية فيه.

وبغض النظر عن هذه الصعوبات، فمن المؤكّـد أن عودة العلاقات بين بغداد ودمشق، تمثل خُـطوة مهمّـة لضبط بعض التحركات داخل العراق نفسه، ولكنها لن تؤتي ثمارها إلا إذا كانت هناك رؤية أمريكية أوروبية جديدة لدور سوريا في المنطقة، على أن تراعي قدرات دمشق من جانب، ومطالبها المشروعة من جانب ثان، لاسيما تحرير الجولان عبر المفاوضات ومنع إسرائيل من الإقدام على حرب إقليمية يتم الترويج لها بين أوساط العسكريين الإسرائيليين المهزومين أمام حزب الله اللبناني، والساعين إلى ردّ اعتبار عبْـر حرب جديدة في المستقبل القريب.

وقبل كل ذلك، أن يكون هناك تفاهم سوري إيراني حول مستقبل العراق، بعد جلاء القوات الأجنبية، يدعمه تفاهم إيراني أمريكي حول النقطة نفسها. فبدون وضوح موقف مما تفعله إيران في العراق، يصبح كل شيء معرّض للتآكُـل.