قرر وزير الخارجية الفرنسي بالعودة إلى بيروت وإكمال مشروعه السياسي في لبنان، بالمقابل قررت وزيرة الخارجية الأمريكية السير في مشروعها لإقامة معادلة تحالفات جديدة في الشرق الأوسط عبر ما يسمى المؤتمر الدولي للسلام و( مبادرة بوش) وغيرها من التسميات.

ويأتي قرار الوزير برنار كوشنير بعد لقاءات روما التي شارك فيه البطريرك الماروني اللبناني ما انطونيوس بطرس صفير ورئيس وزراء لبنان المتنازع على مشروعيته والمبعوث الفرنسي للشرق الأوسط جان كلود كوسرون برعاية غير معلنة من حاضرة الفاتيكان. وتزامنت مع زيارة لنائب الرئيس السوري السيد فاروق الشرع.

هذا القرار ليس عبثيا وليس روتينيا بكل تأكيد فهو يدخل ضمن إطار النظرة الفرنسية الجديدة للمزاوجة بين الدبلوماسية والسياسة الخارجية الفرنسية أي بين المصالح وطرق الوصول إليها.

هذا القرار، على بساطته، يعكس الرؤية الفرنسية لمستقبل علاقاتها الدولية، خاصة ما يتعلق منها بالشرق الأوسط.

فإذا كان الرئيس الفرنسي يكرر حرصه على نقطتين في موقفه الدولي هم:ا الصداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وأمن إسرائيل كلازمة في كل خطبه ومواقفه وإن كان وزير خارجيته يكرر اللازمة التي يستخدمها أصدقاءه المحافظون الجدد حول ضرورة تعاون سوريا وغيران في الملفات الشرق أوسطية. إلا أن من الواضح جدا أن هذا الكلام دبلوماسي بالدرجة الأولى ولا يمكن وضعه إلا ضمن إطار الخطاب الدبلوماسي التقليدي والمتعارف عليه. فبينما يردد رئيس الدولة ورئيس دبلوماسيتها هذا الكلام، يرسلون إشارات ورسل تعمل عكسه تماما.

فالرئيس ساركوزي ليس معنيا بدعم الرئيس بوش وإنقاذه بقدر ما ينتظر المزيد من الهزائم لسياسته لأنها وحدها هذه الهزائم تعيد لفرنسا وأوروبا بعضا من الحضور وبعضا من الدور المفقود الذي تبحث عنه.

ووزير خارجيته المعروف بإتقانه للكلام المعسول والقدرة على تحميل ما يقوله كل المعاني، لن يجد حرجا في إعادة التفسير، حسبما تقتضي الظروف.

من هنا يأتي حديث المصادر الفرنسية أن زيارة كوشنير لبيروت نهاية الأسبوع المقبل ستكون المقدمة الأولى للتحضير لزيارة سيقوم بها إلى دمشق، لإنهاء القطيعة.

ف"الإدارة الفرنسية" أرسلت الكثير من الإشارات لتقارب تحليلها مع تحليل سوريا حول الشرق الأوسط ككل وخاصة حول مبادرة بوش. الإشارة الأهم كانت بالقول "أن مؤتمرا للسلام بلا سوريا لن يعطي النتائج المرجوة منه" وأنها لن تشارك فيه إلا عبر الرباعية التي يتمثل فيها الإتحاد الأوروبي أي بوضوح أنه سيكون لقاء الرباعيتين العربية والدولية حول خطة طريق. رغم أن المصادر الفرنسية ترى أن هذا المؤتمر مهدد بغياب السعودية وأنه سيكون مؤتمرا بين المتصالحين لا بين متخاصمين وهو أمر لا يمكن تسميته بمؤتمر سلام.

نفس المصادر الفرنسية تؤكد أن الإصرار الأمريكي على عقد هذا المؤتمر بهذا الشكل وهؤلاء المدعوين وغياب السعودية واحتمال غياب دولة الإمارات العربية عنه سيؤدي إلى نتائج عكسية تماما فهو يمهد لعودة المياه إلى مجاريها بين المملكة العربية السعودية وسوريا وينهي تحالف دول الاعتدال العربية كما تسميها إدارة بوش. وبالتأكيد فإن مصلحة باريس أن يسير المؤتمر كما تخطط له الولايات المتحدة حيث ستحصد فرنسا الإيجابيات وتراكم الولايات المتحدة وضيوفها السلبيات.

كما أن باريس تنظر بقلق إلى تداعيات التحضير لمؤتمر على الصعيد اللبناني فالإدارة الأمريكية ستضع حلفاءها في لبنان في موقف حرج جدا. حيث أن قبول الحكومة اللبنانية المتنازع على مشروعيتها بحضور المؤتمر سيفقدها آخر ورقة تغطي بها عورتها الوطنية وسيدخل البلاد مجددا في إطار جديد من النزاع بالتأكيد لن يكون به ضيوف الإدارة الأمريكية هم المنتصرون. وإذا لم تحضر فإن العقد غير المعلن بين أطراف تحالف 14 شباط في لبنان سينفرط وسيكون سقوطه مدويا. كما أن العقد غير المعلن بين أطراف ذ4 شباط وإدارة المحافظين الجدد سيكون بحكم الملغى أي كادوك حسب التعبير الفرنسي. وهذا الأمر يعني تلاشي هذا التحالف وإجبار الولايات المتحدة على خوض معركتها في لبنان بنفسها وبلا وكيل، كما الحال في العراق.

من هنا يأتي كوشنير إلى لبنان ويتم التحضير لزيارة يقوم بها إلى سوريا قريبا جدا ضمن إطار إنقاذ ما يمكن إنقاذه وإعادة ترتيب الأوراق الفرنسية في المنطقة وليس للوساطة بين أطراف لبنانية متنازعة.

اللقاءات التي يجريها المبعوث الفرنسي جان كلود كوسرون سرا وعلنا مع الأطراف اللبنانية خاصة التي تصر على بقاء باريس في موقعها السابق حاملة الكثير من التحليلات حول "مخاطر" التراجع والتنازلات لم تؤد إلى إحداث تغيير في الموقف والوعد الوحيد هو البقاء على اللهجة والخطاب حتى نهاية المشروع وبداية تنفيذ المشروع الجديد وباتوا يعرفون ذلك تماما.

وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير مكلف من بلاده بإعادة ترتيب العلاقة مع السعودية، هذه العلاقة التي تمر بمخاض عسير جدا ناتج عن الوضع الداخلي في المملكة. أكثر من كونه نتاج أزمة بين البلدين إضافة إلى أن كوشنير ليس الشخص المناسب لترتيب هذه العلاقة بالتحديد حيث انتقاداته ومواقفه من المملكة العربية السعودية ذات طابع أيديولوجي عميق ولا تنقذه الدبلوماسية وحدها، إضافة إلى ما يقوله البعض أن المشكلة تكمن داخل السعودية.

وكوشنير مكلف بترتيب العلاقة مع مصر حيث فقدت قيادة مبارك بريقها في الشرق الأوسط وفي أفريقها وأفقدت مصر دورا تاريخيا كان من المفترض أن تلعبه وهي مهيأة له. وباتت مصر عبئا على أصدقائها وحملا ثقيلا بدل أن تكون "دينامو" المنطقة لا فندقا للقاءات الدولية والإقليمية.

ويبدو واضحا أن ساركوزي لم يشأ تقديم أي تنازل عن موقفه للعاهل الأردني الذي جاء باريس حاملا ملف واحدا بألوان متعددة تدور كلها حول أهمية دعم فرنسا للإنقاذ في المنطقة، لكن ساركوزي يبدو أنه كان واضحا عندما أكد لضيفه أن إنقاذ المنطقة وإنقاذ الحلفاء يكون بتغيير جذري في التكتيكات والأساليب والأدوات سواء في لبنان أو فلسطين أو العراق.

ساركوزي في موقفه هذا حاول أن يرسل رسائل جديدة لكل الأطراف المعنية خاصة الأطراف العربية المرتمية داخل مشروع المحافظين الجدد فمن موقعه كحليف وصديق للولايات المتحدة سمح لنفسه بانتقاد التكتيكات والأدوات ونأى عن التصريح هو الأهداف والغايات. ربما لأن لا خلاف حولها أو ربما هذا ما تفرضه البراغماتية والواقعية السياسية.

كل هذه الرسائل تحاول بعض القيادات اللبنانية التغافل عنها، لكن يبدو واضحا أن الرسائل قد وصلت وأن المعادلة الدولية التي أرادوا أن يكون لبنان جزءا منها قد اكتملت فصولا ونتائجها كما كانوا يتجاهلون ليست لصالحهم من اليوم الذي راهنوا فيه واستقووا فيه بما يسمى "المجتمع الدولي."