الحالة العصابية التي تصيب أصحاب القرار في أوروبا عامة وفرنسا خاصة باتت ملحوظة وتثير الدهشة أحياناً والاستهجان أحياناً أخرى.

ففريق الرئيس ساركوزي يسرع الخطا للخروج من السلطة وبعضهم من الحياة السياسية وكأن ثمة «تفليسة» سياسية وسقوطاً للهيكل السياسي.

في المقابل بدا واضحاً أن اليسار الرابح في معركة الرئاسة الفرنسية يحضر نفسه بسرعة أيضاً لملء الفراغ وتشكيل فرق عمل وليس فقط فريقاً واحداً، وخاصة أن الخراب يبدو أكبر مما هو ظاهر وينال كافة مناحي الحياة في فرنسا، بما فيها تخريب البنى السياسية والفكرية الناظمة للعلاقات داخل الأحزاب نفسها من يسارية ويمينية.

وإذا كان موضوع الإصلاحات الداخلية اقتصادياً وسياسياً وثقافياً بات معروفاً من خلال المبادئ العامة التي أعلنها الرئيس المنتخب، فإن العلاقات الخارجية تبدو الأكثر تعقيدا في فرنسا وذلك لاعتبارات كثيرة. فالسياسة الخارجية الفرنسية ظلت حتى الأشهر الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق جاك شيراك، محكومة بمبادئ الديغولية ولم تخرج عنها إلا لماماً حتى إبان حكم الاشتراكيين. أما اليوم ففقد ساركوزي كل المبادئ الناظمة والضابطة لإيقاع هذه السياسة.

كما أن ساركوزي فتح الباب واسعا لدخول جماعات الضغط الأطلسية والصهيونية إلى داخل مراكز القرار في فرنسا بل إلى لغة الخطاب الدبلوماسي الفرنسي أيضاً. إضافة إلى وضعه كل السياسة الخارجية الفرنسية بقبضة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الأميركية.

صحيح أنه تاريخياً كان اليسار الفرنسي عموماً والحزب الاشتراكي خصوصاً هم الأقرب لإسرائيل وبنيا مع اليسار الصهيوني علاقات خاصة وتوليا تطويع وترويض يساريين عرب للقبول بواقع وجود يسار يمكن التعاون معه لإحلال «سلام شعبي» وتطبيع سياسي.

وصحيح أن اللوبي الصهيوني في فرنسا قد غزا سابقا الحزب الاشتراكي بقياداته ومراكز قوته إلا أن تغيراً جذرياً قد حصل في هذا الحزب كما في مجمل اليسار الفرنسي من يسار متطرف وشيوعيين بمختلف توجهاتهم إلى اشتراكيين. كما أن ساركوزي المعروف بيهوديته وصهيونيته استطاع ضم الصهاينة إلى حزبه وطمأن الصهاينة في اليسار أنه لن يكون ديغولياً إطلاقاً وهو السبب الذي جعل اللوبي الصهيوني يجعل من ساركوزي الرجل القوي في فرنسا، قبل أن يكتشف الفرنسيون أولوياته التي لم تكن يوماً أولوية فرنسية.

من هنا نلاحظ التحول داخل البنية السياسية الفرنسية بشكل شامل. حتى إن ليلة فوز هولاند انتقل المعارضون السوريون بأعلام الانتداب من الساحة الساركوزية إلى ساحة احتفال اليسار بفوزه بناء لتعليمات جاءتهم من جماعة ساركوزي وماكينته الإعلامية. لتأمين حالة ضغط منذ البداية وتأكيد إعلامي لوجودهم. وكأن الأمر هدية ملغومة جديدة يقدمها ساركوزي للسياسة الخارجية الفرنسية.

ضمن إطار هذا الوضع المضطرب تكثر التحليلات حول مستقبل العلاقات الدولية لفرنسا. وتتناقض التحليلات بانتظار معرفة فريق هولاند القادم.

فشكل وتركيبة الفريق القادم سيحددان معالم عامة للسياسة الخارجية الفرنسية. وليس غريباً أن تكون المسألة السورية هي ضابط إيقاع هذه السياسة. فالمسألة السورية لم تكن يوماً ومنذ انطلاقة الأحداث في سورية لم تكن شأناً داخلياً فرنسياً وهولاند يعرف ذلك جيداً. ففي تقرير مفصل رفعه فريق من المحللين الإستراتيجيين في الحزب الاشتراكي للرئيس القادم يؤكدون فيه أن ساركوزي قد خاض حربه في سورية دون مسوغ فرنسي، ووضع فرنسا في موقع سياسي دولي حرج جداً وعلى جميع الجبهات، ولا يمكن الاستمرار في هذه الحرب وعليه العمل لإعادة ترتيب أوراق فرنسا الدولية من خلال الملف السوري الذي بات مفتاح كل الحضور الفرنسي في العالم.

وأكد واضعو التقرير أن على الرئيس الجديد وقف التبعية الفرنسية لحلف شمال الأطلسي بأي ثمن كمدخل لتحرير القرار الفرنسي وأكد التقرير أن حلاً فرنسياً للمسألة السورية أمر ممكن وضروري وأساسي لإعادة صياغة السياسة الخارجية الفرنسية إذا انتقلت فرنسا من التعاون الأعمى مع الولايات المتحدة إلى التعاون مع روسيا في الشرق الأوسط، مؤكدين في التقرير أن مشروع ساركوزي كان يسعى لجر سورية والمنطقة لحرب أهلية طويلة الأمد تشعل المنطقة كلها، حرب لا يكون فيه أي حسم، حرب أهلية يعاد فيها «استيعاب المتطرفين في المنطقة ويضمن أمن إسرائيل وحلاً سريعاً للمسألة الفلسطينية، كيفما اتفق.

ويذهب التقرير بعيداً بالتأكيد أن ساركوزي كان يسعى لتوريط روسيا بصراع طويل مع حرب استنزاف سياسي واقتصادي وعدم السماح لها بإيجاد حلفاء اقتصاديين يشكل تحالفهم خطراً على الهيمنة الاقتصادية الأميركية الأوروبية ويمنعها من إعادة صياغة نظام دولي جديد أو يؤخر قيامه.

ويخلص التقرير بالقول إن الحلقة الأكثر تعقيداً هي سورية وأنها العقدة والحل معاً. ويؤكد التقرير أن إعادة صياغة علاقات الثقة مع الصين وروسيا ودول أخرى يتطلب المرور بالملف السوري. وأن بوابة حل الملف السوري هو السعي الجاد والفعلي للقطيعة مع سياسة ساركوزي عبر رفع الغطاء السياسي عن داعمي المجموعات المسلحة في سورية من دول أو منظمات وأشخاص وتشجيع الحوار السياسي.