من الصعب بمكان أن نستسلم لحالة الصمت “الإسرائيلي” الرسمي والتزام الإعلام في الدولة العبرية بأوامر الرقابة العسكرية الصارمة بعدم نشر تفاصيل عن تحليق الطيران “الإسرائيلي” في الأجواء السورية، وبث الانطباع بأن “الأمور طبيعية” وأن لا نية ل “إسرائيل” بالتصعيد. لماذا؟ فهذا لأن مسؤولاً كبيراً بحجم الجنرال أهارون زئيفي فركش الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية، قد توقع أن تشهد الأسابيع المقبلة توتراً مع سوريا، مستخفاً في الوقت ذاته بتصريحات نائب رئيس السوري فاروق الشرع بأن “سوريا تدرس سلسلة من الردود”. فالمسؤول “الإسرائيلي” ومعه بعض الوزراء “الإسرائيليين” قللوا من أهمية تصريحات الشرع وقالوا: “هذا ليس مفاجئاً... إننا نستمع إلى تصريحات مماثلة من الشرع منذ سنوات كثيرة”.

وعلاوة على المديح الذي أغدقه رئيس الوزراء “الإسرائيلي” إيهود أولمرت للجيش وأجهزة الاستخبارات الذي يمكن تفسيره في تل أبيب على أنه إشارة ضمنية إلى “نجاح أمني” “إسرائيلي”.. فالمعلقون “الإسرائيليون” هللوا للعملية الجوية وقالوا في تعليقاتهم إن “إسرائيل” نفذت “عملاً يعيد لأجهزتها الأمنية الكثير من هيبة الردع التي فقدتها في الحرب على لبنان قبل عام”. وكتب أحد المعلقين قائلاً: “إن أحداث الأسبوع الأخير وضعت حداً لزخم الحرب على لبنان، وأعادت معادلة الردع إلى سابق عهدها، إذ تم التوضيح لسوريا أن هامش المناورة “الإسرائيلي” ما زال كبيراً”.

ويمكن القول إن هناك ثلاثة تفسيرات للتجرؤ “الإسرائيلي” على اختراق الأجواء السورية عبر طائرتين عسكريتين وفي هذا الوقت بالذات، الأول هو استفزاز القيادة السورية ومعرفة مداها في رد الفعل وربما جرها إلى حرب، خاصة أن الحديث عن الحرب وأحياناً السلام بين دمشق وتل أبيب زاد في الفترة الأخيرة. التفسير الثاني هو محاولة لجس نبض القدرات العسكرية السورية بعد نشر تقارير “إسرائيلية” أكدت أن سوريا تزيد من عمليات التسليح خاصة بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات ومتوسطة وبعيدة المدى. أما التفسير الثالث فهو تحقيق هدف معين في الأجندة العسكرية “الإسرائيلية” مفاده أن تل أبيب مازالت قادرة على ممارسة العربدة في المنطقة، وأن العواقب ستكون وخيمة إذا فكر أي في مهاجمتها حتى بعد هزيمتها في حرب لبنان.

والسؤال الجوهري هو: لماذا تسعى “إسرائيل” إلى التحرش بسوريا وتعمد إلى تصعيد حالة التوتر معها في الوقت الذي يركز فيه الجميع اهتمامهم على محاولة تحريك جهود السلام وعقد اجتماع دولي في واشنطن تحضره “إسرائيل” والفلسطينيون وعدد من الدول العربية، يرغب العرب في أن يكون من بينها دمشق باعتبارها طرفاً أساسياً في قضية الحرب والسلام؟

المثير للدهشة في الاستفزاز “الإسرائيلي” الأخير، أنه لم يكد يمر بضعة أيام على إعلان رئيس الوزراء “الإسرائيلي” أولمرت أن بلاده لا تفكر في إثارة حرب مع سوريا وأنها معنية باستمرار الهدوء على الجولان حتى قامت الطائرات “الإسرائيلية” باختراق الأجواء السورية، لتعيد الموقف إلى ما كان عليه قبل عدة أسابيع، عندما تصاعد التوتر بين الجانبين على جبهة الجولان التي شهدت مناورات عسكرية واسعة للطرفين.

بيد أن ما يدل على كذب الرسائل التي يوجهها المسؤولون “الإسرائيليون” للعالم، هو ما كشفه وزير الخارجية السوري وليد المعلم عندما قال إن خرق الطائرات “الإسرائيلية” للأجواء السورية جاء بعد ساعات من نقل مسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا إليه أن رئيس الوزراء “الإسرائيلي” إيهود أولمرت سيبدأ خفض عدد قواته المنتشرة في مرتفعات الجولان المحتلة على خلفية التوتر بين البلدين. أي أن “إسرائيل” وهي تبلغ سولانا هذه الرسالة كانت تواصل الإعداد لاختراق الأجواء السورية.

الواضح من تصرف “إسرائيل” غير المسؤول أنها بعد ثلاثين عاماً بالتمام والكمال، ترتبك ثانية إذ تواجه قائداً عربياً آخر تعجز عن فهمه بشكل كامل. فالمحللون “الإسرائيليون” يرون الآن أن الرئيس السوري بشار الأسد ومنذ حرب لبنان الثانية يرسل ل “إسرائيل” رسائل متفاوتة.. ففي إحدى المرات تحدث الأسد عن استعادة مرتفعات الجولان بالقوة في حال فشل الطرق الأخرى، وبعد شهر قال إنه مستعد لمفاوضات السلام، وبعد ذلك رفع درجة استعداد الجيش وباشر شراء أضخم كمية أسلحة في تاريخ سوريا، ولكنه وفي الوقت نفسه قال إن “إسرائيل” هي من يخطط لشن هجوم على بلاده.

والسؤال الآن: ما الذي يجول في خاطر الرئيس بشار الأسد فعلاً؟

يبدو أن “الإسرائيليين” فقط هم الذين يهتمون بالإجابة عن هذا السؤال.. وننقل هنا ما قاله قبل أيام الجنرال جازيت رئيس الاستخبارات “الإسرائيلية” الأسبق في حديث له مع صحيفة “جيروزاليم بوست” “الإسرائيلية”، من أن الأسد الابن يمكن بسهولة أن ينهج نهج السادات. واستذكر كيف أن “إسرائيل” لم يكن لديها أي معلومات استخبارية مسبقة تشير إلى أن السادات كان يخطط عام 1977 إلى إلقاء خطاب في القاهرة والافصاح عن رغبته للسفر إلى أي مكان في العالم لخوض محادثات سلام. وقال جازيت: “في النهاية ستكون النتائج مع سوريا مشابهة للنتائج التي تمخضت مع مصر، والسؤال الوحيد هو ماذا سيحدث قبل ذلك؟!”.

إن أخطر ما في محاولة التحرش “الإسرائيلية”، أنها تكررت مرة قبل ذلك في يونيو/ حزيران من العام الماضي، عندما حلقت الطائرات “الإسرائيلية” فوق قصر بشار الأسد في اللاذقية، ومرة أخرى عندما ضربت أهدافاً فلسطينية داخل العمق السوري، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى تصعيد متبادل تحكمه حسابات خاطئة من أي من الجانبين، تزيد فرص نشوب حرب جديدة تنسف عملية السلام من جذورها في الشرق الأوسط، وتفتح على المنطقة أبواب جهنم

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)