تكمن أهمية مؤتمر أنابوليس الذي عقد الثلثاء الماضي، في أنه قد يكون بداية تغيير ما في التفاعلات الخاصة بالصراع على الشرق الأوسط، على نحو ربما يؤثر في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وإمكانات تسويته.

فالصراع الذي عقد المؤتمر من أجل إطلاق عملية جديدة لتسويته أصبح مرتبطا بالصراع الأوسع على المنطقة، وربما غدا متغيرا تابعاً، وليس المتغير المستقل إذا استعرنا اللغة المستخدمة في دراسة الحكومات المقارنة.

وإذا صح ذلك، فمن الطبيعي أن تتأثر المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي أطلقت في أنابوليس بالحالة التي سيكون عليها الصراع على الشرق الأوسط في الشهور المقبلة، ومدى الاستقطاب أو السيولة فيه. ومن هنا أهمية الإشارات الأولية، التي بدت خلال الإعداد للمؤتمر وخصوصا في الأسبوعين اللذين سبقا التئامه، بشأن ازدياد معدلات السيولة في العلاقات الإقليمية والتفاعلات الدولية الإقليمية في الشرق الأوسط على أكثر من مستوى.

فقد حدث تغير جزئي ومحدود في المقاربة الأميركية لسورية، ولم تكن مراجعة جدول أعمال المؤتمر، وإدراج مسألة الجولان على نحو تجاوز فكرة الاكتفاء بإشارة عابرة إليها، هي التغير الوحيد الذي حدث. فقد سبقه قبول واشنطن تفويض باريس في إدارة أزمة الاستحقاق الرئاسي اللبناني بمنهج يختلف عما كان فريق رئيسي في إدارة بوش يميل إليه، وهو الاستمرار في محاصرة دمشق والسعي إلى عزلها. فالمنهج الفرنسي اعتمد التواصل مع سورية واقناع الأطراف الأكثر تشددا في 14 آذار ضدها إلى إبداء مرونة، بما في ذلك عدم اللجوء إلى خيار انتخاب رئيس جديد بنصاب النصف زائدا واحدا.

وقد يكون هذا التغير مرتبطا برغبة فريق في إدارة بوش في السعي إلى كسب سورية وإبعادها بدرجة ما عن إيران لعزل الأخيرة وإضعافها. لكن الواقعيين في تلك الإدارة يعرفون أن هذه الرغبة ليست أكثر من أمنية دونها ثمن كبير لابد من دفعه على صعيد السياسة الأميركية تجاه الصراع العربى الإسرائيلي.

ولذلك سيظل التغير الذي بدأ يحدث في السياسة الأميركية تجاه سورية في حدوده الضيقة هذه في المدى المنظور إلى أن يحسم الخلاف داخل إدارة بوش في شأن كيفية التعاطي مع التحدي الإيراني.

لكن هذا التغير، في حدوده هذه، يخلق تداعيات قد تدفع إلى ازدياد السيولة في التفاعلات الإقليمية على نحو ربما يؤثر في حسم ذلك الخلاف. ومن ذلك، مثلا، التحول في العلاقات السورية - الأردنية، وطي صفحة سنوات أربع من التوتر الذي بلغ حد إعلان عمان كشف أسلحة مرسلة عبر الحدود السورية. فقد فتحت زيارة الملك عبد الله الثاني إلى دمشق صفحة جديدة بين البلدين.

واقترن ذلك أيضا بازدياد ملموس في معدلات وطابع الاتصالات المصرية - السورية مقارنة بما كانت عليه منذ أن تصاعد الخلاف في بداية الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. ولم يقتصر ذلك على الجهود التي قامت بها القاهرة لضمان مشاركة دمشق في مؤتمر أنابوليس. وكان نجاح هذه الجهود مؤشرا على إمكان تسييل الدماء مجددا في شرايين العلاقات المصرية السورية.

غير أن هذا التطور سيكتسب أهمية مضافة إذا انعكس على مسار العلاقة بين الرياض ودمشق في الأسابيع أو الشهور القليلة المقبلة، وأثر بالتالي على القمة العربية المقبلة التي ستعقد في دمشق وتتسلم في بدايتها سورية الرئاسة الدورية من المملكة العربية السعودية.

ولم تكن مشاركة سورية في مؤتمر أنابوليس، على هذا النحو، أمراً روتينياً ولا مرتبطاً بمسألة الجولان وحدها. فحين يشتد الاستقطاب الإقليمي، لا تكون هذه المسألة هي المحدد الرئيسي لخيارات دمشق، التي أظهرت في أكثر من محك خلال العامين الأخيرين أن علاقاتها مع إيران وتحالف «الممانعة» يكتسب أولوية قصوى في لحظات تصاعد الاستقطاب.

لذلك فعندما تقرر المشاركة في مؤتمر ترفضه حليفتها الأولى، وباقي أطراف هذا التحالف، فهذا يعني أن الوضع يتجه إلى ازدياد السيولة على حساب الاستقطاب.

فقد ذهبت دمشق إلى أنابوليس، بينما الرئيس الإيراني يقول عن المشاركين فيه إن «التاريخ لن يرحمهم». ومع ذلك ربما تفيد ملاحظة أن الخطاب الإيراني لم تشتد حدته. وبالرغم من أن أحمدي نجاد لم يوفر لسانه المنطلق دوما وحنجرته التي لا تكل أبدا، إلا أنه حرص في ما يبدو على وضع سقف لهجومه على المؤتمر. فلم ترصد له كلمة جارحة من النوع الذي أصبح معتادا منه، وإنما ركز في الأغلب الأعم على الموضوع، ولم يلجأ إلى اتهامات رخيصة من نوع الخيانة أو الكفر، بل ضبط في أحد تصريحاته وقد تطرق إلى فكرة جيدة عندما قال إن «هذا المؤتمر وأي شيء ينبثق منه لن يكون مثمرا ما لم يضمن حقوق الفلسطينيين».

كما أن خطاب حركة «حماس»، الذي اتسم بإفراط في الحماس كالمعتاد، لم يتجاوز بدوره سقفا معينا في الهجوم على المؤتمر والرئيس محمود عباس. وبدا محمود الزهار القيادي الأكثر تشددا في الحركة هادئا للمرة الأولى منذ «موقعة غزة» في منتصف حزيران (يونيو) الماضي، بالرغم من أن الحدث هو من النوع الذي تعامل معه متشددو «حماس» في معظم الأحيان بكثير من الحدة.

وربما يعود ذلك إلى أن السيولة المتوقعة في تفاعلات الصراع على الشرق الأوسط لا ترتبط فقط بحضور طرف رئيسي في تحالف «الممانعة» مؤتمرا تنظمه القوة التي يسعى هذا التحالف إلى «منع هيمنتها» على المنطقة·

وفي ظل ازدياد هذه السيولة، يبدو أن احتمال نشوب حرب جديدة فى إطار الصراع على المنطقة، بعد حرب صيف 2006، يتراجع الآن بعد أن كان بلغ ذروته في صيف 2007. فالولايات المتحدة ليست جاهزة لضربة عسكرية ضد إيران، والخلافات داخل إدارة بوش في هذا الشأن لا تتجه نحو حسم سريع في ما لم يبق لهذه الإدارة من وقت غير القليل. كما أن براعة إيران في المناورة السياسية تساعدها في تعويم ملفها النووي، وتبقي الأمل قائما لدى دول أوروبية رئيسية كما للوكالة الدولة للطاقة الذرية في حل سلمي.

وإذا صح أن احتمال ضرب إيران يتراجع، بالرغم من أنه يظل قائما، فربما يكون مؤتمر أنابوليس بداية تغير باتجاه استعادة قضية فلسطين شيئا من أهميتها التى فقدتها في السياسة الأميركية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذه الحال، يمكن أن يزداد دور الدول العربية المعتدلة، ولكن ليس من خلال تحالف غير واقعي ضد المحور الإيراني السوري، وإنما عبر تحررها من السعي الأميركي إلى دفعها في هذا الاتجاه. وعندئذ يكون مؤتمر انابوليس اقترن بتفاعلات معاكسة لما تصوره كثير ممن ناصبوه العداء، وهو أنه يستهدف تعبئة المعتدلين العرب ضد إيران.

وإذا صح هذا السيناريو، ستكون لهؤلاء المعتدلين حرية حركة أوسع، بمنأى عن الموقف الذي وجدوا أنفسهم فيه خلال الشهور الأخيرة بين أميركا وإيران، وعلى نحو قد يمكّنهم من القيام بدور أكبر في دعم إمكانات إحراز تقدم في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)