لم تتغير صورة المنطقة كثيراً عما كانت عليه بعد الهجوم الأميركي الشامل في أعقاب أحداث أيلول (سبتمبر) 2001. أفغانستان لم تعد الى «طالبان» والعراق الذي مزقته الحروب الداخلية أكثر مما مزّقه الاحتلال لا يزال تحت سيطرة القوات الأميركية. أما باكستان التي حملت في الماضي عبء المشروع «الجهادي» الأميركي ضد السوفيات في بلاد الأفغان فإنها تواصل حمل أعباء هذا المشروع ضد الأميركيين هذه المرة، وبعيداً الى الغرب تواصل إسرائيل احتلالها الأراضي الفلسطينية والجولان، وعلى وقع الكلام الإيراني الكبير عن المشروع النووي يتسع الانتشار العسكري الأميركي على سواحل الخليج العربي والمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط مدعوماً بأساطيل الغرب والشرق، وتنتظر تركيا «الإسلامية» إذناً من واشنطن للدفاع عن نفسها في وجه «عدوها الكردي» المفترض.

خمسُ سنوات تقريباً مرّت على بداية الحرب الأميركية على «الإرهاب»، كانت حصيلتها توسعاً غير مسبوق في الحضور العسكري الغربي من آسيا الوسطى الى شمال أفريقيا ومن القرن الأفريقي الى وادي بانشير، تواكبه أرباحٌ هائلة من صفقات السلاح وعائدات النفط والغاز.

وحاول نظامان فقط من أنظمة هذه المنطقة الشاسعة مقاومة تحت السقف، فأرست إيران وسورية ما سمتاها سياسة الممانعة. دعمتا في العراق المقاومة ضد الاحتلال الأميركي وفي فلسطين حركتي «حماس» و «الجهاد» وفي لبنان «حزب الله» وما اصطلح على تسميته لاحقاً، «المعارضة الوطنية اللبنانية». ونتج من ذلك مزيد من المجازر في العراق جعلت قوى عراقية أساسية تطالب باستمرار الاحتلال، ومزيد من المجازر والانقسامات في فلسطين وشلل في لبنان قاده الى انقسام مُريع دفعه مرات عدة الى حافة الاقتتال الأهلي، بعد أن دُفع في ذروة معركة الممانعة الى خوض حرب مع إسرائيل خرج منها مُدمراً من دون أن يمس ذلك «نصره الإلهي».

ربما تكون حرب تموز (يوليو) اللبنانية – الإسرائيلية في هذا المعنى ذروة نهج مواجهة الانتشار الأميركي في الشرق الأوسط، لكنها سرعان ما أعادت رسم الخطوط الممنوعة، فاستعمال الأوراق المحدودة المسؤولية بديلاً عن الأنظمة والحكومات لم يعد مقبولاً. وهذا ربما يكون أول الدروس التي خرجت بها إسرائيل وأميركا، وخلصت الدولة الصهيونية (وراعيتها الولايات المتحدة) الى أن تحريك لبنانيين (أو تحركهم) ضدها يعني أن دولة سورية ودولة إيران تتحملان المسؤولية. هكذا باتت الهجمة عبر الحدود الجنوبية اللبنانية تستلزم رداً في عمق سورية وتهديداً – استطراداً – بضرب إيران، وفي الأصل لم تعد مثل تلك الهجمات متاحة بعد أن أقفل القرار 1701 الباب أمام استعمال الجنوب اللبناني في معارك مفتوحة.

تراجع منطق «الممانعة» في مواجهة الغزوة الأميركية، الى حدود التنسيق مع الأميركيين في اجتماعات بغداد ودول الجوار، وبوركت سورية لجهودها في إيواء اللاجئين العراقيين والإمساك بحدودها الشرقية، وتلاقى «الشيطان الأكبر» مع عضو محور «الشر الإيراني» في اجتماعات منتظمة، عنوانها أمن العراق ومداها الخليج وأفغانستان وبحر قزوين، إلا أن تصفية الحسابات استمرت بين أطراف محليين تتفاوت مشاريعهم ومطامحهم. وتحت أنظار الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وإسرائيل اختزلت غزة الى موقع لحماس، وجرى مثل ذلك في لبنان المنكوب، فاستمر فيه مسلسل القتل وجربت غزة أخرى أو تورا بورا ما في نهر البارد. كان ذلك، في فلسطين ولبنان، نوعاً من تصفية حسابات عربية – عربية تحت العين الساهرة لمشروع الهيمنة الكبير، أدت الى مزيد من الخسائر وإضاعة الوقت في انتظار ما سيتقرر.

جاء لقاء أنابوليس ليطرح إعادة ترتيب للأوضاع على قاعدة إبعاد إيران عن شؤون الشرق الأوسط الأميركي الكبير. وللمرة الأولى تفصل الولايات المتحدة في «رؤيتها الإسلامية» العامة المكونة لحربها على الإرهاب بين إسلامين، عربي وغير عربي، وذهب هذا الفصل – ربما مسايرة لإيران وإبعاداً لها – الى حد استبعاد العراق عن الحضور، في مقابل مشاركة عربية شبه شاملة أبرز رموزها سورية، التي استجابت للدعوة الأميركية على رغم صراخ حليفها الإيراني الذي وصل صداه الى الساحل الشرقي للبحر المتوسط. كان اجتماع أنابوليس في هذا المعنى تفكيكاً للحالة التي تواجهها الإدارة الأميركية: العرب في جهة والمسلمون غير العرب في جهة أخرى، وأول الغيث بيان تعهدات بمواصلة السعي الى حل القضية الفلسطينية وإشارة جانبية الى بدء إنهاء الأزمة اللبنانية، فحواها استعادة سورية الى منطق أميركي – عربي يقول بالجولان مقابل لبنان، من دون ربط مساري القضيتين، بل بفصلهما لتلعب سورية دوراً في تسهيل استعادة اللبنانيين سلطتهم ومؤسساتهم، ولتلعب أميركا ومعها روسيا بوتين دوراً لاحقاً في إلغاء قرار ضم الجولان، بتحريره، ثم... تأجيره على ما نقل عن الوزير الروسي لافروف.

ولم يكن على إيران التي استشاطت غضباً لعزلها في أنابوليس أن تواصل غضبها، فأيام قليلة فصلتها عن تقرير الاستخبارات الأميركية الذي يعفيها من تهمة صنع السلاح النووي، باعتبار أن تلك الاستخبارات اكتشفت في نهاية عام 2007 أن إيران أوقفت جهودها منذ عام 2003، عام غزو العراق، وكما كان للعرب الآخرين «أنابوليسهم» في ميريلاند، كان لإيران «أنابوليسها» في الدوحة، حيث حل الرئيس أحمدي نجاد ضيفاً على دول عاشت على مدى الشهور والسنوات الماضية رعب التهديد بصواريخ «شهاب» على أنواعها، واحتمالات تحول أراضيها الى مسرح صراع أميركي – إيراني.

... وبدا نجاد وكأنه «رئيس وزراء أوروبي»، اختار للمناسبة قاموساً آخر. التعاون وإلغاء التأشيرات وتسهيل الانتقال والسماح بتملك العقارات وتعزيز روابط المصالح والاستثمار المشترك...» (غسان شربل – «الحياة» 4/12/2007)...

هل هي أنابوليس خليجية تتكامل وتتقاطع مع أنابوليس الأميركية؟ الأرجح أننا أمام وقائع جديدة، لمعرفة مصائرها المقبلة، وما علينا سوى الانتظار بعض الوقت لرؤية ما سيجري في مختبر الشرق الأوسط الجديد: لبنان.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)