مطلع شهر آذار (مارس) من سنة 2006، استضافت المؤسسة التي يشرف على برامجها السفير الأميركي السابق في اسرائيل مارتن انديك، رئيس «اللقاء النيابي الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط.

ودعا انديك الذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية فترة طويلة، جمهوراً كبيراً لمحاورة الضيف الذي تحدث عن النضال من أجل استقلال لبنان بعد انقضاء سنة تقريباً على اغتيال رفيق الحريري.

ويستدل من مراجعة نص المحاضرة والأجوبة التي تلتها، أن جنبلاط كان مقتنعاً بأن الإدارة الأميركية تؤيد انتقاداته اللاذعة للنظام السوري.

عقب انتهاء المحاضرة التي نشرها «معهد بروكنغز» على الانترنت (32 صفحة) استقبلت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس السياسي اللبناني الذي تمنى موت صديقها نائب وزير الدفاع السابق بول وولفوفيتز أثناء زيارته بغداد. واستغرق اللقاء أكثر من ساعة أفرغ جنبلاط خلالها كل ما حملته ذاكرته عن عملية اغتيال والده. واتهم جورج بوش الأب بالتواطؤ لأن وزير خارجيته جميس بيكر جيّر لسورية حق التحكم بالقرار السياسي اللبناني كثمن لاشتراكها في حرب تحرير الكويت.

وكان واضحاً من سلسلة الحملات العنيفة التي شنها ضد دمشق طوال السنتين الماضيتين، أن وليد جنبلاط راهن خطأ على إسقاط النظام السوري بواسطة أميركا وحلفائها في المنطقة.

بعد زيارته الأخيرة لواشنطن، عاد جنبلاط الى بيروت ليتحدث عن «ضرورة إعادة نظر شاملة في المواقف التي فرضتها الواقعية». ولمس زملاؤه النواب حجم الانقلاب الذي طرأ على تفكيره السياسي أثناء اعتراضه على اقتراح الدكتور سمير جعجع تبني خيار انتخاب رئيس بالنصف زائداً واحداً. ثم تتابعت بشكل ملفت مواقفه المتغيرة، خصوصاً بعدما تخلى عن سيف النقمة ولوح بغصن الزيتون لجماعة 8 آذار ولقيادة «حزب الله» بالذات. ولكن هذا التحول المستغرب لم يمنعه من الاشادة بمنجزات حكومة فؤاد السنيورة والثناء على «ثورة الأرز» ومسيرة قوى 14 آذار. وكتب في جريدة «الأنباء» مقالة شرح فيها تصوره لمقتضيات ظروف المرحلة المقبلة. وبرر حركة انعطافه المفاجئ بالقول إنها نتيجة رؤية جديدة للتيارات المتقلبة في المنطقة. لهذه الأسباب وسواها، طالب جنبلاط «بفصل المسارات للوصول الى علاقات موضوعية خارج التوتر، وخارج الاستخدام المستمر للبنان كساحة مستباحة».

ورأى اللبنانيون في هذا الموقف صورة التغيير الذي لمسه جنبلاط في واشنطن كأن مؤتمر انابوليس فتح باب أميركا أمام عودة النفوذ السوري الى لبنان.

كيف... ولماذا؟

عندما دعيت سورية لحضور مؤتمر انابوليس لم تكن الوزيرة كوندوليزا رايس تتوقع الترحيب العربي الذي لقيه هذا القرار. ويبدو أن الرئيس جورج بوش كان قد حدد شروط المشاركة بالدول «المعتدلة» التي يمكن أن تقف في مواجهة الخط الايراني المتطرف. ولكنه اكتشف أن عزلة سورية قد تتحول الى تيار واسع في حال اضطرت دمشق الى تشكيل جبهة سياسية عريضة تضم ايران و «حزب الله» و «حماس» و «الجهاد الاسلامي»، اضافة الى منظمات الرفض الفلسطينية الموجودة فوق أرضها. وهددت بإقامة مؤتمر بديل في دمشق وآخر في موسكو، من أجل نسف كل الجهود الأميركية - الاسرائيلية الرامية الى تفتيت الموقف العربي الموحد. ودافعت الجامعة العربية عن هذا المطلب، على اعتبار أن مبادرة السعودية في قمة بيروت 2002 اقترحت تحريك مفاوضات السلام على مختلف المسارات. وهذا ما يستدعي المشاركة على المسار السوري، خصوصاً أن دمشق اشترطت قبل الحضور ضم ملف الجولان المحتل الى جدول أعمال المؤتمر. وخشيت كوندوليزا رايس من إفشال مؤتمر انابوليس قبل أن يبدأ، علماً بأن الرئيس بوش يريد توظيفه لدعم مكانته المتردية في المنطقة. لهذا السبب تراجعت عن فكرة حصر الحضور بدائرة الدول الملتزمة الخط المعتدل، وقررت دعوة دمشق لسببين: أولاً - بهدف تطوير تعاون سورية الايجابي في العراق بعد تصديها لعمليات تسلل المقاتلين عبر أراضيها. ثانياً - من المفترض أن تنتهي إيران الى عزلة إذا ما تحقق السلام مع سورية ولبنان، وبهذا يكون الاتفاق مع إسرائيل والسلام الشامل في المنطقة، قد أخرجا سورية من دائرة الدول المتطرفة.

يقول المراقبون في طهران إن الرئيس محمود أحمدي نجاد لم ينجح في ثني الرئيس بشار الأسد عن مشاركة بلاده في أنابوليس. والسبب أن الاسد قلّد والده في الشؤون المتعلقة بالمصلحة الوطنية. والكل يذكر كيف فشلت مهمة كوسيغين في اقناع حافظ الأسد بعدم دخول لبنان سنة 1976. علماً بأن التحالف السوفياتي - السوري بلغ ذروته في حينه، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. وفي ضوء هذه السابقة، اختارت سورية الاجماع العربي من دون التخلي عن روابط الصداقة العميقة مع إيران. لذلك أرسلت إلى طهران نائب وزير الخارجية فيصل المقداد بهدف تطمين القيادة إلى متانة العلاقات على رغم المشاركة في أنابوليس. ومع أن وزير خارجية إيران منوشهر متقي ندد بالمؤتمر في حضور زميله السوري، إلا أن المقداد كرر الحديث عن متانة العلاقات الوثيقة بين البلدين.

مطلع هذا الأسبوع فوجئ المجتمع الدولي بحدثين متلازمين أبعدا إيران عن تهمة التطرف، ومهدا لظهور مرحلة جديدة من العلاقات المتداخلة يمكن أن تخلط الأوراق وتحرج جماعة 14 آذار في لبنان. ويتردد في طهران أن موسكو ودمشق اشتركتا في تغيير المسار الإيراني، الأمر الذي قابلته واشنطن بارتياح. واستند الرئيس بوش في إعلان التبرئة من عملية تخصيب اليورانيوم منذ سنة 2003، إلى تقرير الاستخبارات حول البرنامج النووي الإيراني. وقد يضطره هذا الاعتراف إلى وقف تهديداته المتواصلة باحتمال ضرب المفاعلات النووية، والاذعان الى نتائج تقرير وكالات الاستخبارات الأميركية. علماً بأن التقرير يمكن أن يكون مضللاً، تماماً كالتقرير الذي قدمه كولن باول إلى مجلس الأمن يوم ادعى أن العراق يملك اسلحة دمار شامل. وتزعم واشنطن أن التقرير الذي وضعته 16 وكالة استخبارات، اعتمد على مصادر مختلفة بينها صور التقطت سنة 2005 لمفاعل «نثانز»، واعترافات أدلى بها الجنرال المنشق علي رضا اصغري، مساعد وزير الدفاع سابقاً. وتقول صحيفة «نيويورك تايمز» إن الغموض يكتنف عملية وصول هذا الضابط الكبير إلى واشنطن، وهي تتساءل ما إذا كان قد خطف أثناء زيارته لتركيا، أم أنه لجأ إلى السفارة الأميركية مختاراً.

تجمع الصحف الأوروبية على القول إن تقرير وكالات الاستخبارات الأميركية لُفق بهدف تحرير الرئيس بوش من تهديداته المتواصلة بشن حرب استباقية وصفها بـ «الحرب العالمية الثالثة». ومثل هذا التهديد فرض على اسواق النفط التعاطي مع الأسعار بخوف وحذر، الأمر الذي رفع سعر البرميل إلى المئة دولار من دون الخضوع لنظرية العرض والطلب. ومع استمرار هذه الحال المتأرجحة، ستستمر عملية رفع الأسعار بانتظار حسم الأزمة سلماً أم حرباً.

إسرائيل، من جهتها، تسعى إلى استدراج الولايات المتحدة لشن حرب استباقية ضد إيران. وهي تزعم أن إيران تمثل خطراً دائماً على وجودها، وأن ضربة عسكرية قوية قد تزيل هذا الخطر. وتستند في تحريضها على بعض الحجج، منها: أولاً، الخوف من امتلاك اسلحة نووية تهدد بها إسرائيل والولايات المتحدة ودول الخليج. ومثل هذا التهديد غير منطقي لأن إسرائيل تملك أكثر من مئتي قنبلة نووية جاهزة للاستخدام، ولأن الاسطول الأميركي مستنفر لتدمير الترسانة النووية الإيرانية قبل أن تستكمل.

ثانياً - ان التدخل الايراني في العراق يحول دون استتباب الأمن، ويمنع القوات الأميركية وحلفاءها من الانسحاب. وتقول طهران إن الشيعة موجودون بغالبية في العراق، وإن إدارة جورج بوش هي المسؤولة عن الاحتلال، وعن ظهور المقاومة. والاستقرار في العراق يأتي نتيجة انسحاب القوات المحتلة وليس نتيجة تفريغ العراق من شعبه، كما يحدث حالياً.

ثالثاً - الاعتراض على دعم ايران لـ «حزب الله» و «حماس» والقضية الفلسطينية. وترد طهران على هذا الاعتراض بأنها تقاوم عزلتها الاقليمية باحتضان خصوم اسرائيل مثل «حزب الله» و «حماس» وتمنع قيام حلف معاد لها في المنطقة بسبب تبنيها القضية الفلسطينية.

وخلصت الخارجية الأميركية في استنتاجها الى قرار مفاده أن مشروع الحرب ضد إيران سيغرق مصالحها في أوحال أسوأ من اوحال العراق. كما أنه سيعزز مكانة المتشددين من أمثال أحمدي نجاد، ويجهض مشروع الدولة الفلسطينية بواسطة «حماس»، ويشدد قبضة «حزب الله» على الحكم والحكومة في لبنان!

بعد مراجعة هذه السلبيات قررت الإدارة الأميركية التراجع عن فكرة توجيه ضربة عسكرية لإيران بحجة أنها أوقفت عملية صنع قنبلة نووية. ومن المؤكد أن أحمدي نجاد سيرتاح لهذا القرار الذي أعفاه من تهمة حيازة أسلحة الدمار الشامل، وأزال من عقول حكام الخليج هواجس الخوف من خطر قنبلة إيران النووية.

يوم افتتاح جلسات أنابوليس، تحدثت كوندوليزا رايس عن عملية إعادة النظر في تحالفات جديدة داخل منطقة الشرق الأوسط. ومع أن قرار تبرئة إيران لم يكن قد أعلن بعد، إلا أنها كانت تدرك وقعه في المنطقة، خصوصاً أنها ساهمت في صنعه. وأهم ما ستقود إليه هذه النقلة السياسية، هو الاعتراف بنظام الجمهورية الإسلامية التي حاولت واشنطن اسقاطه منذ مطلع الثمانينات. وفي آخر رسالة وجهها المرشد الأعلى علي خامنئي بواسطة الرئيس طالباني، إلى الرئيس بوش، مكاشفة صريحة بأن اسقاط النظام هو خط أحمر، وان الكف عن هذه المحاولات سيؤسس لعلاقات طيبة. لهذا يتمنى بوش أن تشمل زيارته المرتقبة للمنطقة عواصم عدة بينها دمشق وبيروت في حال توصل اللبنانيون الى انتخاب رئيس جديد.

أعرب وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير عن قلقه من خطر إطالة الفراغ في كرسي الرئاسة، علماً بأن ترشيح العماد ميشال سليمان تم بتوافق أميركي - سوري على هامش مؤتمر انابوليس. ويبدو أن هذا التوافق يحتاج الى مزيد من التدخل السوري - الايراني كي يصبح نافذاً. لكنّ الدولتين القادرتين على ممارسة ضغط مؤثر لا ترغبان في إنقاذ الوضع مجاناً، وانما تطمحان الى إلغاء عزلتهما الاقتصادية كثمن للافراج عن الرهينة اللبنانية. ويتخوف الأوروبيون من اتساع هوة الخلافات والمطالب التعجيزية التي يطرحها العماد ميشال عون، بحيث يستفيد «حزب الله» منها لإعادة النظر في اتفاقية الطائف. وبما أن العماد عون معجب بالتجربة البلجيكية التي يريدها قدوة للحل المرتقب، فإن الفرنسيين يعتبرون التجربة اللبنانية أشد رسوخاً وأكثر دينامية، شرط أن يبدي الطامحون الوطني على الشخصي.

وفي الأخبار الأخيرة من بروكسيل ان الملك البير الثاني فشل في تجسير الخلاف حول تشكيل الحكومة، وانه يخاف من تفكك المملكة في حال تشبث حزبا الفلامنك والفرانكفون في مواقفهما الرامية الى استقلال احدهما عن الآخر.

وربما يفتح صندوق «باندورا» في لبنان، كل الهواجس النائمة منذ بداية حرب 1975.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)