في فترة زمنية لا تعدو أياماً، تكاد تنحصر في الفسحة القصيرة ما بين عيدي الأضحى المبارك وأول أعياد الميلاد، هاتين المناسبين اللتين يختتم بهما عالمنا عامه الآفل ويلاقي العام الجديد اللاحق، تابع الناس في مشارق الأرض ومغاربها مشهداً كان الأقرب إلى الحجيج السياسي الغربي إلى بلاد الأفغان... كان تقاطراً لثلة من الزعماء، يذكرنا ضجيجه الإعلامي المرافق، لأول وهلة، بحنين الغرب المفتون بمركزيته إلى بعث أسطورة الأسكندر المقدوني من جديد، هذه التي ضاع زخمها ذات يومٍ بعد اجتيازه جبال الهندكوش إلى الهند، وانتهت بانتهاء انكفائه قافلاً عبرها، وينبهنا بعد قليل تمعن إلى أزمة حقيقية يشهدها المشروع الغربي في نسخته الأمريكية الراهنة في تلك المجاهل، هذه التي تخبطت قبله فيها وهي توغل في متاهاتها ذات يوم جيوش ذلك الفاتح الكبير، حيث أُختتمت هناك أسفار فتوحاته بعد أن تاهت في منعرجاتها طلائع محاربيه، ليضيع من ثم أثر تلك الفتوحات في حنايا بطون التاريخ.

مع حفظ الألقاب، الفرنسي نيكولا ساركوزي، والبريطاني غولدن براون، والألمانية أنجيلا ميركل، والإيطالي رومانو برودي... قادت أهم دول الأطلسيين، وما تعدّ صاحب الحل والعقد في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الملحق الأسترالي الدائم... وربما لا ينقصهم إلا أمير موناكو لتكتمل مفارقات المشهد... ودون أن ننسى بالطبع الإطلالات الرسمية الأمريكية العديدة المستمرة السابقة واللاحقة وعلى أعلى المستويات، وآخرها كانت لوزير الحرب الأمريكي روبرت غيتس...

ترى، لماذا هذا الحجيج المداهم لدنيا الأفغان وفي هذه الفترة الزمنية القصيرة من أيامهم؟!

إنه، ودون أن نتوة بدورنا في تعقب المعلن من الأسباب، أو نوغل في تحليلات قد تودي إلى كشف ما لم يعلن منها، يمكن اختصار الدافع من وراء كل هذا المشهد غير المسبوق بالقول أنه يكمن في هدف واحد، أجمع عليه كل من هرول وطاف وسعى هناك من هؤلاء الزعماء الستة المنتحلين لبوس البررة، ناب عنهم في إعلانه الرئيس الفرنسي، عندما قال: إن "هذه الحرب يجب أن لا نخسرها، ولن نخسرها"!

هي فزعة أو نجدة إذن... محاولة تطمين مطلوبة للأمريكان… نخوة حانت وآن أوانها... لن نترككم وحدكم... لن نسمح بخسارة الإمبراطورية لسطوتها، وإن كانت قد خسرت حتى الآن مصداقيتها وهيبتها، ليس تضامناً فحسب، وإنما لأن هزيمتها عموماً، وبغض النظر عن ما لا يُتفق حوله، أو يختلف معها في التفاصيل عليه، هو هزيمة للغرب بأسره... أو كل من شاء فيه وفي العالم أن يقرن مصالحه، أو اقترنت عضوياً، بمصالحها، أو ألحقته مصالحه، مكرهاً أو راغباً، بقافلة سياساتها الكونية الإمبراطورية، التي تحدوها دائماً مصالحها فحسب، وإن لم تلتفت كثيراً لمصالح الملتحقين بها، والذين غالباً ما يقنعون من فيء غزواتها بفتات مائدتها، وفي أحيان كثيرة من الغنيمة بالأياب!

نعم، قد يكون لمثل هذه الزيارات الغربية الأفغانية الضاجة جانباً آخراً، يتوسم أصحابه هدفاً دعاوياً للاستثمار الداخلي، يتمثل في مشهد هؤلاء الزعماء وهم يجولون متجشمين عناء الارتحال بعيداً عن أوطانهم الرافلة في أجواء الاستعدادات للأعياد البهيجة، حيث تلتقط لهم في البعيد الموحش الصور مع جنودهم المنهكين القابعين في ثكناتهم أو قواعدهم المعزولة المسيجة اتقاء الموت الذي يداهمهم أحياناً من حيث لا ينتظروه... استثمار ذلك لتهدئة شعوب لا شعبية لديها لمهمة جيوشها غير المقنعة لها في ديار الأفغان البعيدة...

هذا الحجيج الأطلسي اللافت يأتي اليوم خاتمة قد تعدّ مقدمةً لما قد يتلوها، إذ يجيء بعد انقضاء العام السابع الذي يحين بعد أيام لانطلاق ما سميت حينها بعملية "الحرية الصامدة" الاستباقية الأمريكية، أو طليعة حروب بوش الإمبراطورية، التي انطلقت في العام 2001، والتي كان لها أن أسقطت سريعاً حكومة طالبان، وجاءت للأفغان بحكومة كرزاي، الذي يحاول الحجيج الأطلسي طمأنته أيضاً، وإن هم أيضاً يبحثون اليوم في الغرب وعلنا عن خلفه، أو لا تكتم ذلك مصادرهم... هذه المصادر التي تعترف بحقيقة لم يعد أحد يجادل فيها تقول:

إن اجتياح أفغانستان لم يكن بالأمر الصعب، لكن احتلالها وتطويعها والبقاء فيها ثبت أنه هدف ميئوس منه...

في الغرب اليوم يتحدثون في تقاريرهم عن احتمال اقتراب عودة وشيكة لطالبان إلى السلطة، ولا ينكرون سيطرتها على ما يقارب ثلثي البلاد، وإن الطالبانيين الجدد قد غدوا يطلون عبر غاراتهم على أطراف كابل... يعترفون بأن الأفغان اليوم أصبحوا مضطرين للمقارنة بين جنة الاحتلال الموعودة ونار طالبان الذين يتم تخويفهم منها، فيفضلون الأخيرة بديلاً لراهن فاسد في نظرهم ترتكز دعائمه الثقيلة وهو يجثم على صدورهم على ثلاث:

الأمريكان والأطلسيون أو "الإيسافيون" كما يكنون أنفسهم هناك، والأفيون، بعد أن غدت بلادهم في ظل الاحتلال تنتج 93% من إجمالي إنتاج العالم منه، وأمراء الحرب السابقين أو من ترتبط مصالحهم بمصالح الاحتلال... الأفغان لم تعد تخدعهم ماكنة الأعمار الإعلامية المجلجلة التي انصبت وعودها الخلبية على رؤوسهم خلال السنوات السبع العجاف، وهم وإن كان ستون في المئة منهم أميين، إلا أنهم يسمعون ويرون الحقائق ويشعرون بها على الأرض، التي تقول الإحصائيات عنها أن ما قيمته خمسة عشر مليار من المساعدات أو الهبات الإعمارية المفترضة لم يذهب منها، مثلاً، للزراعة، التي يعيش منها ثلاثة أرباعهم، إلا ما يقل عن 2% فقط. وإن ما شيّد من المدارس التي قيل إنها لا بد وأن تشيد إلا 5% منها، وإن من يتخرّج من المرحلة الثانوية ممن أموها لا يزيدون عن 1%، وإن معدل مستوى معيشة الفرد يوميا في ظل الحقبة "الإيسافية"ً يقل عن دولارين... ناهيك عن انعدام الأمن... الأفغان يقارنون بين طالبان التي تتحرك بينهم وتتحالف مع بعضهم، وتسيطر على مناطقهم، وتطور قدراتها في ساحات المواجهة، وتحاول الإفادة من أخطائها السابقة، وبين حكومة تقبع في العاصمة وتكاد سلطتها لا تمتدّ خارجها، أو لا تبتعد سيطرتها عن حيث يكون الأمريكان والأطلسيون، كما لا شعبية لها، بعكس خصمها العتيد الذي يتهددها، وحيث الاهتمام المشترك بينها وبين الأمريكان والأطلسيون ينحصر، مبتعداً عن المصالحة الوطنية وحكاية التنمية وحملاتها الدولية الطنانة، بصون الوجود المهدد بخسارة الحرب، والبحث عمن آن لهم أن يستبدلوا به كرزاي، هذا الذي يجد نفسه اليوم مضطراً للتفاوض مع طالبان التي سبق وأن نعاها على الملأ وإلى الأبد أكثر من مرة سابقاً.

إذن، وبعد 7 أعوام عجاف أعقبت حرب "الحرية الصامدة"، أُعلن خلال سنيها تلك لأكثر من مرة "انتصار الحرب على الإرهاب"، وسبقتها ورافقتها وعود جازمة باستئصاله، ورفعت على مدار أيامها شعارات مدوّية تتحدث عن انطلاقة جديدة للديموقراطية "الإيسافية" الكاسحة، ها هو بوش من جديد يؤكد على نجاحها... ويستدرك: "لكن يلزمها الوقت"... لم يحدد ما يلزمها من عقود لكن الطالبانيين الجدد هاهم يرغمون ستة زعماء غربيون على الحجيج إلى بلادهم، ليعلنوا هناك أنهم لا يريدون هزيمة في بلاد الأفغان تكون بحجم انسحاب... وخسارة للإمبراطورية تعني خسارتهم...الحلفاء الحاجون يشدون أزر بعضهم بعضاً، ويشجعون أنفسهم... الغرب، الذي تتسائل شعوبه عن جدوى الانغماس في حروب بوش الفاشلة، يخشى خسارة الغرب... لا يحتملون الراهن الأفغاني وهم أكثر خيفة من المستقبل غير المطمئن... ساركوزي فرنسا الباحثة عن دور، والتي انحازت بعد زيارته لواشنطن، فأضعفت قدرة أوروبا على بعض مخالفتها أو مناكفتها للسياسة الأمريكية، والذي قال سابقاً بأن لا طائل من وجود قوات فرنسية في أفغانستان، يقرر أن الهزيمة ممنوعة والبقاء ضرورة، ويعد بإرسال لمزيد من قواته عند الحاجة، وتحت إمرة الأمريكان... ووزير الحرب الأسترالي، يحذر من خسارة الحرب التي بدأت بوادرها تلوح، ويطالب بتغيير استراتيجيتها... والبريطاني براون الذي كان يقول أنه "لن يفاوض الإرهابيين"، تنقل "الديلي تلغراف" البريطانية خبراً عن ستة جولات من محادثات سرية تجريها مخابراته مع طالبانيين تلتقيهم في منحنيات سفوح جبال الهندكوش!!!

بقي أن نقول: إنها ليست أفغانستان، أو طريق الحرير فحسب، أو هذا المفصل الجيوسياسي الاستراتيجي الذي يتحكم موقعه في دروب ثروات أسيا الوسطى، ويعيق من يضع يده عليه جموح طموحات العمالقة القادمين الثلاث: الصين والهند وروسيا... وإنما هي باكستان أيضاً، وطالبانها الذين بدأت وتائر أخبارهم تترى أيضاً... باكستان التي غدت أسيرة لعبة الموت الأمريكية، التي كانت آخر ضحاياها بشكل أو بآخر زعيمة حزب الشعب ورئيسة الوزراءالسابقة بي نظير بوتو... باكستان رهينة قنبلتها النووية، والرازحة تحت عبئها، أو القابعة تحت طائلة تداعيات حجة الحرص الغربي على عدم "وقوع أسلحة نووية باكستانية" في أيدي الإرهابيين... لهذا وذاك، كان موسم الحجيج الغربي إلى بلاد الأفغان..!