سوف احاول ان احصر حديثي لهذه المناسبة في الثقافة، وأنا قد تسللت إليها من الصحافة على طريقة من يقفز المراحل ثم يعود الى بداياتها على مهل. فليس ثمة صحافة من دون ثقافة، وإلا كانت حبراً مزوراً وملوثاً.
كيف تصنع شيئا لا تصدق انك أنت صانعه؟ هذا كان شعوري بعد صدور كتابي «طريق المختارة زمن كمال جنبلاط». ذلك اني في ذروة انهماكي بالصحافة اليومية التي ترتهن عمر الصحافي حتى الاستفاد ما كنت احسب اني سوف اجد وقتا للعمل على كتاب، غير اني كنت في ملحق «الأنوار» الاسبوعي اهرب الى الثقافة في يوم عطلتي.
أهذا من الثقافة ام من الصحافة؟. اصدق الجواب: من الاثنتين معاً. اذ يستحيل الفصل بين الثقافة والصحافة كما يستحيل الفصل بين السلب والايجاب اللذين عندما يلتقيان يولد النور فلا يعود السؤال: أيهما السلبي وأيهما الايجابي. فالنتيجة نور.
بوجه آخر، لا يمكن الفصل بين الثقافة وثورات الحرية. فالثقافة هي التي تشعل الثورات بيارود الفكر وشجاعة الرأي وتحول الصحافة رزم ديناميت.
غير ان هذا كان في زمن مضى، او كاد. فلا صحافة رائجة وفاعلة في هذا العصر الا اذا كان بارودها الرأسمال الذي يأتي بالاقلام والاسماء والخبرة وبالتكنولوجيا والابتكار والابداع، ثم تأتي الادارة فالتوزيع والانتشار والشهرة.
الصحافة التي تصنعها مؤسسات تملك كل هذه الامكانات هي التي تأتي بالاعلان الذي يتكفل تمويل الصحيفة ويضمن تقدمها واستمرارها، ويحمي مناعتها فيكتب محرروها ومعلقوها بحرية وصدق ونزاهة وشجاعة، وهكذا تزاوج بين رسالة الصحافة والرأسمال في عصر سقوط الحدود بين الدول والقارات وانتفاء الحاجة الى القواميس بين البشر واللغات.
عبر هذه الصحافة تنتشر الثقافة وتزدهر بقدر ما تحمل الى القارئ من نتاج الكلمة، فكراً، وفلسفة، وأدباً، وشعراً ورواية وفنوناً، فيتساوى الفضل بين الصحافة والثقافة، واذا كلاهما مدين للآخر.
من دون رأسمال واعلان تجاري، الصحافة رسالة طوباوية صوتها خافت ومداها قصير، والثقافة فيها روائع في معرض مقفر. بل ان الصحافة من دون اعلان مشروع خاسر، باهظ الكلفة.
وكما الصحافة مع الاعلان، كذلك محطات التلفزيون، ومحطات الاذاعة. ولكن من يرسم الحدود بين ما هو اعلان تجاري وما هو اعلان سياسي او عقائدي؟. ومن يضع نقطة بين نهاية الاعلان وبداية الصحافة، ومن ضمنها الثقافة؟ ومن هي الجهة التي تراقب وتحاسب وتفصل بين ما هو خبر، ورأي وثقافة، وسياسة، وحق بالحرية والمعرفة والاطلاع، وبين ما هو اعلان ومنبر لمشروع سياسي لدولة غريبة او قريبة. وبين ما هو حق يكفله الدستور والقانون وما هو انحياز او التزام بنظام خارجي تحت شعارات وعناوين تبطن غير ما تعلن؟
الرأسمال الاعلامي الخارجي اذا جرى توئيفه في الآلات وفي تكنولوجيا المعلومات هو خير وبركة للمعرفة وللثقافة والحضارة. اما اذا جرى توظيفه في الحبر وفي الاقلام وفي الكلمة والصوت والصورة فإنه يشكل خطراً كبيراً على الاستقلال وعلى الثقافة في بلد مثل لبنان يقدس الحرية، ويتساهل في شروطها الوطنية الى أبعد الحدود حتى الى حد التغاضي، خوفا او مراعاة. عن زعزعة وحدة المجتمع وكيان الوطن وهذا ما يواجهه لبنان في هذه المرحلة.
وثمة خطر آخر لكنه خطر مشروع يأتي من الفضاء الاعلامي المزدحم بالأقمار الاصطناعية وبالرساميل والتقنيات. وعبر هذا الفضاء كان على الصحافة اللبنانية ان تدفع ضريبة عصر الرأسمال الاعلامي الفضائي الذي لا يرحم بقدرته على التنافس والانتشار والسيطرة على معظم أسواق الصحافة العربية.
فصحف هذا الاعلام تحضر باكراً مع الصحف اللبنانية على مائدة الصباح، خبراً ورأياً، وفكراً، وسياسة، وثقافة وعلوماً وفنوناً واقتصاداً، كما تحضر في كل بلاد وفي كل مدينة، وفي كل مكتبة ومؤسسة، وفي كل محطة ومقهى، وعلى كل زاوية ورصيف.
مع هذا الاعلام الفضائي والأرضي الغني، المقروء والمرئي والمسموع، اشتدت صعوبة المنافسة اللبنانية، فكان من حق عدد كبير من الصحافيين والاعلاميين اللبنانيين في السياسة والثقافة والاقتصاد والفنون والاخراج ان ينضموا الى الفضاء الاوسع كتابة، وصورة، وصوتاً.
وفي حين يحمل هؤلاء الزملاء دمغة لبنان اينما ذهبوا، واينما حلوا، فإنهم لا يستطيعون ان يخفوا في كل طلة وكلمة ان وطنهم تراجع وضاق حتى لم يعد يتسع إلا للمرغمين على الصمود، وللقانعين بأن لبنان افضل لهم من اي بلد آخر.
ولا ينكر احد ان ثمة زاوية أمان وفوقها مظلة اسباب للاعلامي السياسي اللبناني الذي يعمل في الصحافة العربية، وهي انه محكوم بمبدأ الاعتدال والحياد في ما يكتب عن بلاده او غيرها، وعليه ان يحمل ميزان القيراط في ما يكتب، وان يحفظ قاموس المصطلحات التي تصلح لكل مقام ومقال. وهكذا يكتشف الاعلامي اللبناني في العالم العربي انه يخلق وطنا من خياله ويعيش فيه، ويعتاد عليه، بل يرتاح فيه ويستقر. واذا ما شط فلا خوف ولا قلق، لكنه ما ان يتنشق نسمة من مناخ لبنان السياسي الحر حتى يدرك انه غائب عنه في اجازة، ولا بد انه عائد.
كيف يصبح الوطن مثالا في الخيال؟ هذا ما نحن فيه. فقد ابتلينا بالداء الوحيد الذي يحمل الموت الى لبنان عبر الطائفية التي تتخفى في اي دين مقدس وهو منها براء، ونحن نعيش الآن مرحلة كأنها تعود الى عصور نشوء الاديان في هذا الجزء من الكون حيث شعت أنوار الايمان بإله واحد متعدد الرؤيا والصلاة فإذا هو في لبنان متعدد الطوائف والمذاهب.
لكننا نلاحظ ان احداً من عباقرة «البروباغاندا» لم يستطع ان يبتكر من الأساليب والوسائل لتعميم الخطاب الطائفي كما يبتكر لنا أهل هذا الخطاب في لبنان. فاستغلال الدين يجري في كل الاتجاهات وفي كل الفرص المتاحة، وخصوصا في بعض وسائل الاعلام المكتوب، والمرئي، والمسموع، وعلى المنابر وفي الشوارع والساحات العامة، وعلى الجدران، وبمكبرات الصوت في التظاهرات والتجمعات، وبالمنشورات والشائعات، وباليافطات وبأصوات الاولاد والسذج والبؤساء الذين لا يفقهون معنى للدين والايمان، ولكنهم معبأون لتلبية النداء عند الاشارة في ليل او نهار.
ومن المفارقات ان المال الاعلامي الممنوع من ان يوظف في بلده بحرية تامة مسموح له في لبنان ان يوظف في خدمة دول وانظمة اخرى. وقد وقع لبنان في دائرة خطر هذا الاعلام الذي تغلب على كل قوانين الدولة ومؤسساتها، حتى بات الكيان اللبناني الصغير و«الفقير» والفريد من نوعه الحضاري، في محيطه اضعف من ان يواجه ويصمد امام الخطر الذي يطبق عليه من الأرض ومن الفضاء.
بسبب هذا النوع من الاعلام كره اللبنانيون السياسة التي عجنوها وخبزوها، وقد عجنتهم، ورقتهم وخبزتهم وتركتهم امام النار حتى احترقوا.
واذا كان التلفزيون نعمة على الثقافة، اذ هو ينشرها ويعممها بسمينها وغثها، بلبها وقشورها، فإنه بالنسبة الى الصحافة غول مفترس يلاحقها ويحاصرها في كل لحظة، وهي لا تقوى عليه إلا بحضورها الهادئ والأنيق وبنفحة الصلة المباشرة مع العقل، ومع الشعور، والفكر، والروح، عبر الورق والحبر، اذ تتحول الصحيفة في يد القارئ لمرآة صور، ومدى آفاق، وخبر، ورأي، ورؤية، وموقف، وشرح، وضوء بطيء على كل ما شاهد القارئ وسمع بلمحات خاطفة على شاشة التلفزيون.
الثقافة في الصحافة لها طعم آخر ونكهة مختلفة. وصحيفة من دون ثقافة لا نكهة لها ولا طعم. بل ان السياسة والاقتصاد والعلوم ان لم تكتب بلغة عصبها الثقافة فلا رونق لها ولا وهج.
لكن للثقافة في العالم العربي متاعب. ومن متاعبها ان ثمة من يجعلها عباءة فضفاضة جاهزة وتحت الطلب لمن يشتريها ويدفع ثمنها غاليا فيرتديها ويتكنى بها. لذلك نرى في عالمنا العربي من يزهو بهذه العباءة ونرى من يتقن حياكتها وتسويقها.
وحيث يصر بعض المدن العربية على المشاركة في مواسم اقامة معارض ثقافية دولية للكتاب نقرأ ونسمع صيحة الثقافة في تلك المدن احتجاجاً على منع كتب تحكم عليها «شرطة الثقافة» بالمصادرة والتلف». واغرب ما في الامر ان تلك الكتب هي من التراث العربي العريق وقد صدر بعضها في النصف الاول من القرن الماضي، وكانت تلك المدن تحت الاستعمار، وكانت عناوين الكتب المصادرة من علامات شهرتها في الثقافة والأدب وفي مقاومة الاستعمار.
كيف تقاوم الثقافة العربية هذه الاعتداءات المهينة للحضارة العربية، من قديمها الى حديثها المعاصر؟... فقط بالاحتجاج والاستنكار عبر مقال او تصريح، وينتهي الأمر. لذلك تمضي «شرطة الثقافة» في تعقب الخارجين على قوانينها.
في العصور الغابرة كتبت الحضارة العربية بريش الطيور الجارحة وبحبر الفحم والاصباغ. وقد اخترقت تلك الحضارة حدود بلادها بلغتها، وعمت أمم العالم، ودخلت في لغاتها وآدابها وعلومها.
أما في عصر الفضاء العربي المفتوح على الكون فإن الفكر الحر يعجز عن الافلات من قيد «شرطة الثقافة»، هذا في حين تسبح في الفضاء بدلا منه ثقافة القتل وغواية الانتحار بتفجير اطنان الديناميت وسط اولاد المدارس، ووسط تجمعات العمال في الساحات طلبا لفرصة تأتيهم بلقمة عيش. وبالديناميت يلاحق غواة الانتحار سيارات الاسعاف والممرضين والممرضات والنساء الباحثات عن حليب او دواء للاطفال.
وما يرعبنا نحن اللبنانيين ان اسم وطننا ادرج اخيراً في لائحة اسماء ثلاثة بلدان في العالم تقع تحت علامة الخطر وغير آمنة للسفر إليها.
فماذا بقي للبنانيين؟
هذا ليس سؤالا في السياسة.
انه سؤال في ثقافة الحياة بأبسط الحقوق الإنسانية: الأمان.
انه سؤال وطن عنوانه الثقافة، والجمال والفنون، والمدنية، والحرية، والديموقراطية، والقانون.
هل صار ذلك للبنان من الماضي؟... ولماذا؟... ولحساب من؟
هذه ايضا بعض الاسئلة في الثقافة وليست في السياسة. فأي سياسة ارقى من قيمة الحياة؟
واذا كان للموت ثقافة فهي ثقافة تكريم الروح عند وداعها في رحلة العودة الى خالقها راضية مرضية بما بذلك وما اعطت في سبيل الوطن والمواطن، وفي سبيل الحرية والكرامة والعدل.
لبنان وطن لهذه القيم، ولغايتها كان. ورسالته ودوره في عالمه العربي ان يكون في الطليعة بين من يسهم في تعميم ثقافة الحياة التي لا تعني سوى المعرفة والحرية والكرامة والعدل.
ولنتوقف عند هذه الارقام التي نشرت اخيراً عن الأمية في عالمنا العربي من جهة، وعن هجرة العقول من هذا العالم نفسه.
هناك مئة مليون عربي، فوق سن الخامسة عشرة، أميون بالكامل، وهم نسبة الثلث من مجموع العرب.
وهناك ثلاثمئة ألف متخرج من الجامعات العربية كل سنة يهاجر منهم سبعون ألفاً من ذوي العقول التي تجد فرصا لمغادرة أوطانها.
هل نستطيع ان نعرف كم هي حصة لبنان من العقول المهاجرة خلال اربعة عقود مضت على الاقل؟
نخاف الارقام والنتائج والعواقب، لاننا سنكتشف ان لبنان يصدر شباباً وعقولاً وثقافة حياة، ويستورد سلاحاً ومتفجرات، وثقافة عصبيات، تهدد من بقي فيه وما بقي منه.
نحن في عصر لا نستطيع الانفصال عنه، وليس لنا من قوة هذا العصر سوى العلم والثقافة والذكاء والمغامرة. وأهمية ثقافة لبنان انها متعددة الفكر واللغة، فإذا صارت ثقافة موحدة قضي على لبنان، نحن في حاجة الى تربية مدنية وطنية موحدة. وليس الى ثقافة موحدة.
وحتى لا اختم على سواد اقول:
نحن في حاجة الى اي ذرة ايمان بقيامة لبنان. فالايمان ثقافة وليس سياسة.
وقيامة لبنان حقاً آتية.

مصادر
السفير (لبنان)