ساذج من يعتقد ان المناورات الاسرائيلية يمكن ان تشكل خطرا مباشرا وفوريا ، بمعنى ان يحصل شيء ضد لبنان او سوريا خلالها ، ولكن قد يكون اشد سذاجة من يصدق انها انما تجرى لمجرد التوجه الى الساحة الداخلية لرفع معنوياتها بعد حرب تموز وكفى. انها الترجمة العملية التطبيقية لتوصيات فينوغراد ، ما اعلن منها وما لم يعلن. وهي بذلك اعادة تأهيل الجبهة الداخلية ، وتحضيرها لمعركة ستصبح ضرورية لاسرائيل اذا لم ينفع التهويل المتمثل في استعراض العضلات ، في دفع لبنان وسوريا وفلسطين الى الانصياع لما تريده اسرائيل في المنطقة ، بدءا من الساحة اللبنانية والحل السياسي الضامن لهيمنة المعسكر المرتبط باميركا واسرائيل وبالتالي لنزع سلاح المقاومة. انتقالا الى فلسطين وتسليم الجميع بالاملاءات الاسرائيلية حول تصفية قضية اللاجئين والقدس والحدود ، ومن ثم الى سوريا وانصياعها لكل ما هو مطلوب منها بالنسبة للمقاومة اللبنانية والفصائل الفلسطينية ، والمقاومة العراقية.
هذه المكاسب السياسية الاسرائيلية هي وحدها ما يمكن ان تعوض على الدولة العبرية هزيمة تموز الاخيرة ، وترتيبها بعد الانسحاب من جنوب لبنان. والا فان الكيان الاسرائيلي عاجز عن تحمل هزيمة عسكرية لا يمتصها انتصار ديبلوماسي.
لنذكر جيدا ان اول انتصار للعرب كان عام 1973 ولكن اسرائيل امتصته بمعاهدة كامب ديفيد ، واخراج اكبر قوة عربية من ساحة الصراع. ثم كان الانتصار الثاني ، المختلف نوعيا والمتمثل بما حققته الانتفاضة ، فتم امتصاصه ايضا بمعاهدات ، وقد كان من الممكن امتصاص تحرير لبنان بجر لبنان او سوريا الى المعسكر الاميركي - الاسرائيلي لو نجح احتلال العراق وتحقيق النتائج المقصودة من اغتيال الحريري والخروج السوري من لبنان ، لكن ذلك لم يحصل فكانت حرب تموز ، لتزيد الطين بلة وتفاقم الازمة الاسرائيلية.
هكذا يرتسم الصراع بيننا وبين المشروع الصهيوني ، خطا متعرجا ، كل مواجهة ديبلوماسية او عسكرية فيه هي نقطة تحول. وهكذا كانت اسرائيل ومن وراءها ينجحون في جعل هذه التحولات تنعطف كل مرة باتجاه تحقيق خطوة جديدة في هذا المشروع. حتى عندما ينعطف التحول نحو المشروع العربي تنجح اسرائيل في ليه واعادته نحوها. الا في المرة الاخيرة حيث بدأت الارهاصات في الانتفاضة الثانية ، لتسجل رسميا وثبوتيا في الخروج الاسرائيلي من لينان. وعندما ارادت الدولة العبرية اعادة الخط الى الميلان الذي كان عليه ، هزمت من جديد حيث تركزت نقطة التحول بشكل لا جدال فيه في تموز ,2006
لكن من يظن انه بامكان اية حكومة اسرائيلية ان تسلم بذلك ، يكون جاهلا لطبيعة المشروع وطبيعة الدولة الصهيونيين. فالامر في غاية البساطة الهندسية: الخط كان يتجه رغم التعرجات القليلة باتجاه شروق شمس دولة اليهود ، وليس من شان نقطة التحول الا وان توجهه باتجاه مغربها. فهل يعقل ان يستسلم الاسرائيليون لهذا الغروب؟ قد يكون من المنطق القول ، ان نقطة التحول اللبنانية هذه لا تعني نهاية الدولة اليهودية ، وهذا صحيح ، لكنها تعني بدون ادنى شك التوجه نحو نهايتها ، فمن يخرج بسيارته من بيروت باتجاه جنوب لبنان لن يصل الى شماله. ورحلة الالف ميل تبدأ بخطوة واحدة. هذا اذا ما اخذنا الامر ببساطته العامة ، اما اذا توقفنا بشكل اعمق عند ما فصله السيد حسن نصرالله من تحولات الوعي على صعيد الامة كلها خلال السنوات الاخيرة ، فان الامر يصبح اخطر ويفسر بشكل عميق ايضا معنى عبارة بن غوريون من ان اسرائيل لا تحتمل الهزيمة ففيها نهايتها.
من هنا فان المنطق يقول ان ما يحتاجه الاسرائيليون الان هو تسجيل نقطة تحول تعيد الخط باتجاههم. ولذا اطلقوا هذا الاسم على مناورتهم الاخيرة. تسمية تقر بالامر الواقع ، وتعترف بالفشل والا فلماذا التحول ؟ ولكنها - وعلينا ان ننتبه جيدا - لا تستسلم له. وهذا هو الموقف المنطقي الواقعي الذي كثيرا ما اغفلناه نحن العرب فكذبنا وتكاذبنا وظننا ان الغير يصدقنا حتى ان لم نصدق انفسنا.
عدونا يعرف انه اخفق ، بشكل فاضح في لبنان ، وبشكل اكثر تعقيدا في فلسطين ، وبشكل غير مباشر في العراق ، وبشكل اخر سياسي في سوريا ، ولذلك فانه لن يستسلم وسيحاول اعادة ترتيب اوضاعه على كل الجبهات مما يقتضي اطلاق حالة استنفار عام ، نرى ان الجميع يشارك فيها ، من اعلى مسؤول في الدولة الى اخر مواطن. هذا بالنسبة للمدنيين ، في حين يقوم الجيش باستعدادته الاخرى. وربما لم تكن هذه المناورة هي الاخيرة قبل الحرب القادمة ، بل ربما ايضا حاولت الديبلوماسية الاسرائيلية والاميركية (وقد اصبحت الفرنسية في جعبتهما) ان تهول بهذه المناورات لتحصل على انتصارات سياسية ، تمتص الهزيمة العسكرية ، اذ لن يضيرها ان تفرض التنازلات والخسائر والركوع على الساحات الثلاث ، بمجرد مناورات الحرب ، ودون ان تضطر لتقديم خسائر حرب.
لكن التدقيق فيما تطلبه وتحتاجه لتحقيق هذه الموازنة وبين ما يمكن ان تقدمه الاطراف الممانعة او المقاومة ، يقود الى القول بالاستحالة. ولذا فان من يعتقد ان اسرائيل لن تقدم يوما على حرب ضد لبنان او سوريا ، او ضدهما معا اضافة الى حماس في غزة ، هو من يطمئن نفسه بالوهم. غير ان الدولة العبرية لا تستطيع باية حال ان تقوم بهذه الخطوة الا بعد استعدادات استثنائية لم تقم بها في تاريخها. لانها لن تكون فعلا معركة نقطة التحول الثانية بل النهائية.

مصادر
الدستور (الأردن)