تلقيت دعوة كريمة من مركز الدراسات الإستراتيجية في الأكاديمية العسكرية العليا في دمشق، ورغم الظروف الضاغطة التي كنت أمر بها حيث ألسنة اللهب تتصاعد من مبنى البرلمان المصري العريق لتحرق جزءًا من تراث القرن التاسع عشر وقرب حلول شهر رمضان بأجندته الخاصة وترتيباته المطلوبة، رغم هذين العاملين معًا فقد تحمست لتلبية الدعوة لأسبابٍ يقع في مقدمها ضعفي التاريخي تجاه بلاد الشام باعتبار «سورية» مهد المسيحية المبكرة وموئل العروبة الخالصة وحاضنة الدولة الإسلامية الأولى مع حكم «بني أمية». فضلاً عن أن جيلي الذي شهد تجربة قيام الوحدة عام 1958 ومأساة الانفصال وانهيار «الجمهورية العربية المتحدة» عام 1961 هو جيلٌ عشق «سورية» التي أحبها «عبد الناصر» ومات وهو يحلم بالعودة إليها. ولا بد أن نعترف أن للقطر السوري تألقا خاصا ومكانة متميزة على المستويين الإقليمي والدولي، إلى جانب أنها «الشلال» التاريخي الذي تدفقت منه موجات المد القومي في التاريخ العربي الحديث، وكنت أدرك عندما لبيت هذه الدعوة أن علاقات «القاهرة» و»الرياض» مع «سورية» ليست في أحسن أحوالها، بسبب ما جرى في «لبنان» وتداعيات ذلك قبل قمة «دمشق» وبعدها، ولعله من المناسب أن أطرح انطباعاتي حول هذه الزيارة المتميزة في هذا الظرف العربي الخاص، وأسوق تلك الانطباعات من خلال النقاط التالية:

أولاً: لا بد أن أشيد بحسن الترتيب ودقة الإجراءات التي أحاطت بندوة مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للقوات المسلحة السورية، فالانضباط كامل، والموضوعية متاحة، ومساحة الحرية في الحوار لا بأس بها، كما أنني فوجئت بأن العماد نائب القائد العام وزير الدفاع ومعه العماد رئيس الأركان حضرا كل جلسات الندوة على امتداد يومين كاملين من الساعات الأولى للصباح حتى الساعات المتأخرة في المساء، كما أن المدعوين كانوا خليطاً من الشخصيات المرموقة فكريًا وثقافيًا من بعض الدول العربية، ودار موضوع الندوة حول التضامن العربي وارتباطه بسياسة مؤتمرات القمة بدءًا من مؤتمر» أنشاص» الأول عام 1946 حتى قمة «دمشق» الأخيرة عام 2008.

ثانيًا: انعقدت الندوة برعاية الدولة التي تترأس القمة العربية حاليًا، كما أن دمشق ـ أقدم مدن الشرق على الإطلاق ـ هي عاصمة الثقافة العربية هذا العام، كذلك فإن الندوة انعقدت في ظل أجواء عربية تبدو أفضل نسبيًا من شهورٍ سابقة خصوصًا أن الملف اللبناني بدأ يتجه إلى الأفضل رغم بعض الأحداث التي تعكِّر الصفو، وتؤكد أن ذلك البلد الجميل الراقي كان ولا يزال وسيظل مستهدفًا من أطراف عدة واتجاهات كثيرة، كما أن الوضع في العراق يدخل مرحلة تبدو للوهلة الأولى أهدأ من مراحل سابقة رغم أن العنف لم يتوقف والوجود الأجنبي مازال جاثمًا على أرض الرافدين، كما أن الوضع في غزة يشهد تهدئة موقتة لا تبدو إسرائيل دائما قادرة على احترامها!

ثالثا: دعنا نعترف أن الديبلوماسية السورية حققت في الفترة الأخيرة نجاحات عدة توجتها بالقمة الرباعية في دمشق والتي ضمت قادة فرنسا وتركيا وقطر وسورية وتمكنت من اختراقات لم تكن متاحة لها من قبل، فقد زار الرئيس بشار الأسد فرنسا في مناسبة الاجتماع الأول لـ»الاتحاد من أجل المتوسط»، كما زار الهند زيارة موفقة ثم جاءت زيارته الأخيرة إلى موسكو علامة فارقة في العلاقات بين روسيا الاتحادية والجمهورية العربية السورية، خصوصاً أن الرئيس الأسد اتخذ خلالها موقفًا حديًا من نزاع روسيا العسكري والسياسي مع جورجيا في ما نسميه «حرب القوقاز» وفتح بابًا واسعًا للتحالف مع موسكو من جديد في ظل احتمالات عودة أجواء الحرب الباردة بين روسيا الاتحادية في جانب والغرب بما فيه دول المعسكر الاشتراكي السابق في جانب آخر.

رابعًا: كان استقبال دمشق للرئيس اللبناني الجديد ميشال سليمان نقطة تحول أخرى جرى خلالها الإعلان عن إقامة علاقات ديبلوماسية بين دمشق وبيروت، وتبادل السفراء بين سورية ولبنان، وهو مطلبٌ ألحَّت عليه أطرافٌ كثيرة من قبل، كذلك فإنني أزعم أن ملف المحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق في مقتل الشهيد رفيق الحريري توارى هو الآخر بعض الشيء على نحوٍ يُبعد شبح المواجهة الحادة بين الحكومتين اللبنانية والسورية، ولقد توجت ديبلوماسية دمشق نجاحاتها بزيارة وزير خارجية فرنسا للعاصمة السورية بعد غيابٍ طال على امتداد السنوات الخمس الماضية.

خامسًا: إن قبول سورية الوساطة التركية للدخول في محادثاتٍ غير مباشرة مع إسرائيل أعطى رسالة اعتدالٍ أخرى تشير إلى رغبة القيادة السورية في السعي نحو تهدئة الوضع في المنطقة واستهلاك الوقت في فترةٍ تنتظر فيها إسرائيل والولايات المتحدة تغييراتٍ في الحكم والسياسة والإدارة، كما أنها تُشير إلى عمق العلاقة بين دمشق وأنقرة على نحوٍ يذكرنا بسنوات المواجهة الصامتة في تسعينات القرن الماضي بسبب ما كانت تردده تركيا من اتهامات لدمشق بدعم «حزب العمال الكردستاني»، وهو ما لعب فيه الرئيس المصري حينذاك دورًا معروفاً لانتزاع فتيل المواجهة التي كادت أن تتحول إلى صدامٍ عسكري عام 1998.

سادسًا: لقد لاحظت ـ وقد أكون مخطئًا ـ أن العلاقات الإيرانية السورية تقوم على قدرٍ كبيرٍ من الندية، كما أن دمشق تحتفظ بهامشٍ للاختلاف في سياستها عندما تريد، ولقد علمت أن طهران لم تكن راضية عن حضور سورية لمؤتمر أنابوليس بل لقد دعت إيران حينذاك الفصائل الفلسطينية كافة إلى مؤتمرٍ تعبويٍ فى طهران في توقيت مؤتمر أنابوليس نفسه ولكن حركة «حماس» اعتذرت عن عدم الحضور، وكان لذلك مردود سلبي في علاقتها مع إيران، ولعل ذلك يعكس قدرًا من استقلالية تلك الحركة أيضًا.

سابعًا: يبدي السوريون رغبةً واضحة في ضرورة عودة العلاقات الدافئة مع المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية، ويرون أن محور (القاهرة - دمشق- الرياض) هو مصدر توازن واستقرار وقوة دفع للعمل العربي المشترك في ظل الظروف الدولية المعقدة والأوضاع العالمية التي تحمل في ثناياها التوقعات والأخطار كافة، كما أنهم يأملون أن تتمكن الديبلوماسية السورية من دفع العمل العربي المشترك في الشهور المقبلة، ويظنون ـ وليس كل الظنِّ إثمًا ـ أن الوضع في لبنان كان هو سبب المشكلة التي كادت أن تعصف بقمة دمشق العربية، أما وقد تحسن الوضع في لبنان، وأبدت سورية تجاوبًا في ذلك السياق، فقد آن للعمل العربي المشترك أن يعود إلى قوة حركته وزخم اندفاعه.

ثامنًا: انتهزت سورية ـ بدهائها الديبلوماسي المعروف ـ فرصة هذه الشهور الأخيرة من إدارةٍ أميركيةٍ راحلة، وحكومةٍ إسرائيلية انتهى عمرها الافتراضي، ومسرح دولي مواتٍ، لكي تمضي قدمًا في سياسة طرق الأبواب وتحقيق اختراقات، وحصاد نجاحات لا بد من تتويجها بتحقيق التضامن العربي المطلوب، ولقد شعرت من أحاديث السوريين ـ رغم إشارتهم الدائمة إلى خصوصية العلاقة بينهم وبين اللبنانيين ـ أن لهجتهم في الحديث عن مستقبل العلاقة بين دمشق وبيروت تقوم على مفرداتٍ إيجابية مثل «الندية» و»المصالحة» و»التعاون في كافة المجالات» .

تاسعًا: يعاني الاقتصاد السوري، مثلما هو الأمر بالنسبة للدول العربية الأخرى ودول العالم الثالث عمومًا، من غلاء الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة، ورغم أن السوري تاجرٌ بطبيعته إلا أنه يشارك العالم المعاصر أزمة غذاءٍ وطاقةٍ ومياه قد لا تبدو آثارها إلا بعد سنوات قليلة، كما أن سورية لا بد أن تمضي على طريق التحديث خصوصًا في مجال تكنولوجيا المعلومات، وأن توائم بسرعة بين مقتضيات الأمن الوطني واعتبارات بناء الدولة العصرية مهما كانت الظروف والتحديات والمشكلات لأن التباطؤ في هذا المجال يحرم ذلك القطر الكبير ميزات لا يجب أن يفرط فيها.

عاشرُا: بقيت نقطة لا أجد حرجًا في الحديث عنها، وهي أنني اكتشفت أن أشقاءنا في سورية يملكون موهبةً خاصة يتمكنون بها من تحويل المصالح إلى مبادئ، وإلباس عنصر المصلحة الوطنية رداءً تلفه الروح القومية والمبادئ الإنسانية، وتلك ميزة تنفرد بها سورية تلك البلد العجوز الذي تراكمت على أرضها الثقافات، وتتابعت فوقها الحضارات، فأصبحت نسيجا وحدها في عالمنا العربي المعاصر وسياساته المتداخلة ومشكلاته العديدة.

...هذه انطباعاتٌ عامة عن زيارةٍ أخيرة قمت بها إلى القطر السوري، كانت مناسبة رائعة التقيت فيها بأشقائنا هناك من سوريين وفلسطينيين وعرب، كما دعاني أثناءها السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» الفلسطينية إلى عشاء في منزله، وشعرت من حديثه برغبةٍ قوية في رأب الصدع الفلسطيني وعودة الروح الأخوية بين الفصائل المناضلة خصوصًا مع حركة «فتح» والسيد محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية مع تقديره للأدوار المصرية والسعودية واليمنية والسورية والقطرية في هذا الشأن، ولا بد أن أذكر هنا أنني عدت من دمشق بتصوراتٍ تختلف كثيراً عن ما ذهبت به، فقد تجدد لديّ الأمل وتبدد عندي اليأس وأصبحت أتطلع إلى عودة روافد العمل العربي المشترك كي تتدفق من جديد وتصب في قناة مستقبل نتطلع إليه جميعًا من خلال رؤية عربية شاملة، ونظرةٍ قومية متكاملة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)