وضخ كميات نفط اضافية اغرقت الاسواق العالمية، مما ادى الى انخفاض الاسعار الى اقل من عشرين دولارا للبرميل، مضافا الى ذلك بيع ديون الكويت للعراق التي قدرت بحوالي 26 مليار دولار الى شركات عالمية للمطالبة بها، او عدم اسقاط جزء منها بما يسمح للعراق بالاستدانة من البنوك العالمية لمواجهة الازمة الاقتصادية التي حلت به من جراء خوض حرب استمرت ثماني سنوات ضد ايران للحيلولة دون انتقال ثورتها الاسلامية الى الساحل الغربي العربي من الخليج.

الكويت رفضت جميع هذه الاتهامات العراقية، واعتبرت نفسها تواجه
حملة ’ابتزاز’ من النظام العراقي في حينها، وعبر عن ذلك صراحة الشيخ سعد العبدالله ولي العهد الكويتي وممثل بلاده في مفاوضات الطائف التي استضافتها المملكة العربية السعودية عشية الحرب، عندما قال ’نحن لا نخضع للابتزاز’ في رده على مطالب عراقية باسقاط الديون او جزء منها، او تأجيل دفع اقساطها.
هذا الخطأ العراقي الاستراتيجي كان مقدمة لاغراقه في حروب لم تتوقف مع الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وانتهت باحتلاله واسقاط النظام فيه.

الآن، وبعد عشرين عاما، وبعد ان تعرفنا على النتائج، والمؤامرات التي حيكت لتبرير غزو العراق واحتلاله في آذار (مارس) عام 2003، بناء على اكاذيب مفضوحة، مثل امتلاك العراق لاسلحة الدمار الشامل او تورطه في احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) ودعمه لتنظيم ’القاعدة’ المتهم بالوقوف خلفها، الآن لا نستبعد ان يكون الرئيس العراقي صدام حسين قد وقع ضحية مؤامرة محبوكة لاستفزازه وجره الى الحرب لتدمير قدراته العسكرية الهائلة التي توفرت له بسبب حربه مع ايران، مثلما لا نستبعد ان تكون الكويت قد استخدمت طعما للايقاع به في هذه المصيدة دون علمها.

فمن الواضح، وبعد ان عرفنا الخطط الامريكية ونتائجها وعلى رأسها احتلال العراق، واطاحة نظامه العربي العلماني غير الطائفي (وغير الديمقراطي ايضا) ان الولايات المتحدة، وبتحريض اسرائيلي، وضعت سيناريو محكما، بانهاء القوة العسكرية العراقية الناشئة، لاحكام سيطرتها على احتياطات النفط وامداداته في الخليج، واستمرار تفوق اسرائيل عسكريا في المنطقة.

النظام العراقي السابق ارتكب كارثة الغزو والاجتياح، وعوقب عليها بتدمير قواته واخراجها بالقوة من الكويت، واجباره على توقيع صك الاستسلام في خيمة صفوان، وتعرضت عاصمته لابشع عدوان في التاريخ حيث جرى تدمير جميع بناها التحتية من جسور ومحطات ماء وكهرباء ومستشفيات، والاكثر من ذلك فرض حصار ظالم ادى الى مقتل مليون انسان، معظمهم من الاطفال بسببه.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: اذا كان النظام قد اخطأ وعوقب على خطئه، فلماذا استمرار الحصار لاكثر من 13 عاما، ثم بعد ذلك ارسال الطائرات والدبابات لتدميره مرة ثانية، واحتلاله، واعدام رئيسه بطريقة استفزازية يوم عيد الاضحى المبارك؟

الولايات المتحدة الامريكية عندما ارسلت نصف مليون جندي الى المملكة العربية السعودية تحت عنوان ’عاصفة الصحراء’، لم تكن تهدف الى تحرير الكويت، وانما الى تدمير العراق والامة العربية كلها، ووجدت الدعم والمساندة من دول عربية للأسف الشديد.
والأخطر من ذلك ان عمليات التضليل نجحت في اعماء أعين الشعوب العربية، ونسبة كبيرة من الشعب العراقي عن رؤية الحقائق، والنظر الى ما هو أبعد من تحرير الكويت، والمخططات الامريكية الاسرائيلية الرامية الى كسر شوكة العرب جميعاً لمصلحة الطموحات الاستراتيجية الامريكية والاسرائيلية.

تدمير العراق ومن ثم احتلاله بموافقة ومباركة عربية غبية اديا الى حدوث فراغ في المنطقة، سارعت كل من ايران وتركيا واسرائيل للتنافس على ملئه في ظل غياب كامل للمشروع العربي.
ومن اللافت ان الدول الخليجية التي تحالفت مع امريكا ومولت مخططاتها لتدمير العراق، ووفرت لها الغطاء الشرعي العربي والدولي، تبكي دماً حالياً على سقوط العراق فريسة للنفوذ الايراني من خلال حكامه الحاليين، وتضغط على الولايات المتحدة، من اجل اعادة الكرّة مرة اخرى وتخليصها مما تسميه بالخطر الايراني النووي المهدد لأمنها واستقرارها.

معظم الدول العربية التي تحالفت مع امريكا لتدمير العراق، مستعدة الآن للتحالف معها واسرائيل ايضا من اجل تدمير ايران، لانها اضعف من ان تدافع عن نفسها رغم مئات المليارات من الدولارات التي انفقتها على شراء اسلحة وطائرات حديثة متطورة.
ندرك جيداً ان معظم دول الخليج والمملكة العربية السعودية تعض أصابع الندم بسبب سقوطها في المصيدة الامريكية، والتورط في مؤامرات اسقاط النظام العراقي وغزو العراق واحتلاله، بعد ان جاء البديل، حسب رأيها وتصريحات مسؤوليها، ومقالات كتابها، اكثر خطورة عليها وعلى امنها، لأن الخطر الايراني، على عكس الخطر العراقي، يهدد وجودها وأنظمتها وأسرها الحاكمة، حسبما يقوله هؤلاء المسؤولون في السر والعلن.

الشعب العراقي، الذي سقط هو الآخر ضحية حملات الكذب والتضليل الامريكية المدروسة، بدأ أيضاً، أو نسبة كبيرة منه على وجه التحديد، يعيش حالة من الصحوة، ويشعر بالندم بعد ان خسر اكثر من مليون من ابنائه من جراء الغزو الامريكي، علاوة على اربعة ملايين يتيم، وخمسة ملايين مشرد ولاجئ، وتدمير طبقته الوسطى.
النظام الجديد في العراق يعتبر الأكثر فساداً في العالم، حيث جرى نهب عشرات المليارات من ثروة البلاد، والأخطر من ذلك انعدام الأمن والاستقرار، وانهيار الخدمات، وارتفاع معدلات البطالة، واستفحال الطائفية، وحروب القتل على الهوية العرقية، او المذهبية.
الولايات المتحدة الامريكية التي وضعت مشاريع الغزو والاحتلال هذه، بما فيها مشروع غزو الكويت بطريقة غير مباشرة تدفع الآن غاليا ثمن هذه المشاريع من دماء ابنائها، ودافعي الضرائب الامريكيين، فقد خسرت حتى الآن 800 مليار دولار في العراق، و600 مليار في افغانستان، ولا تستطيع الهروب من البلدين او كسب الحربين فيهما، ولا نستغرب ان يكون القادم اسوأ بالنسبة اليها مع تصاعد وتيرة الخسائر المالية والبشرية وعدم وجود ضوء في آخر نفق ورطتها الحالية.

الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بات الآن في ذمة التاريخ والمؤرخين، ولكن ما نراه في عراق اليوم من مآس وكوارث قد يدفع الكثيرين لمراجعة احكامهم عليه، واذا كان البعض لا يريد ان يذكر له اي محاسن، وهذا شأنه، ولكن الغالبية الساحقة من العرب، ولا نقول العراقيين او الكويتيين، سترى فيه رجلاً شجاعاً، انهى حياته بطريقة مشرفة، عندما وقف كالهرم امام المشنقة، رافعاً الرأس، مردداً اسم العروبة عالياً، ناطقاً بالشهادة، مؤكداً على عدالة القضية الفلسطينية وعروبتها.

كان الرئيس العراقي، ورغم تحفظات البعض على طريقة حكمه، واضحاً في مواقفه مؤمناً بها، ولو أراد ان يجاري الامريكان والاسرائيليين، ويرضخ لشروطهم ومطالبهم، لاستمر في الحكم حتى اليوم، مثل جميع اقرانه العرب، ولكنه فضل ان يموت شهيداً بكبرياء الشجعان.

رأي القدس