الكاتب : طه عبد الواحد

يبدو أن الرئيس الأميركي باراك أوباما يسعى إلى تحقيق فكرة تتجاوز بكثير الفكرة التي عجز عنها سابقه بوش الابن بنشر درع صاروخية في أوربا الشرقية، إذ أن الدرع الصاروخية حسب الرؤية الأوبامية تحولت من فكرة كانت أقرب إلى العسكرية إلى فكر يغذي ويضمن بقاء حلف الناتو، الذي يشكل بدوره ضمانة رئيسية لبقاء أمريكا قوة عظمى بالمعنى الجيوسياسي. من جانب آخر سيؤدي فكر (إستراتيجية- أو حتى عقيدة بالنظر إلى ما ستحققه من نتائج إن أنجزت) الدرع الصاروخية إلى إحراج روسيا سعياً للحفاظ على مسافات فاصلة اقتصادياً وسياسياً بينها وبين أوربا، الجارة المتاخمة لها جغرافياً، كي تبقى أوربا قاعدة طوعية في خدمة المصالح الإستراتيجية للأخ الأكبر المفروض عليها من وراء المحيطات.

إن الدرع الصاروخية ومحاولات جر روسيا إليها ليست سوى جولة إضافية من التنافس على أوربا بين موسكو وواشنطن، فالولايات المتحدة قلقة من السياسة الروسية تجاه أوربا، حيث يهدد التكامل بين الجانبين (عناصره متوفرة بحكم الجغرافيا بينما عناصر التكامل مع الولايات المتحدة مفروضة بالعنصر الاقتصادي والهاجس الأمني) بابتعاد أوربا تدريجياً عن تمسكها بطابع علاقات مع الولايات المتحدة يرى فيه كثيرون أنه من مخلفات حقبة قد ولت هي حقبة الحرب الباردة. ما سيعني تراجع النفوذ الأميركي في البر الأوربي، وبصورة أوسع سيعني هذا تراجع هيبة ونفوذ الولايات المتحدة دولياً وسقوط فكرة الهيمنة الأميركية المطلقة على العالم.

لقد جاء أوباما ليصحح هفوات سلفه بوش، الذي كان يريد نصب الدرع الصاروخية في دولتين من أوربا الشرقية هما بولونيا وتشيك بموجب اتفاقيات ثنائية مع كل منهما، دونما اكتراث لموقف أوربا كاتحاد أوربي، وحتى كشريك وحليف إستراتيجي في الناتو. سياسة بوش في هذا المجال، كما في كل المجالات، كان تنذر بكارثة.

ولأول مرة استخدمت إدارة أميركية وصف (أوربا القديمة) في إشارة إلى أوربا الغربية، لاسيما القوى الفاعلة فيها مثل فرنسا وألمانيا، أي أن إدارة بوش أحدثت شرخاً في صفوف الحليف الأوربي للولايات المتحدة ومهدت بذلك الطريق لإضعافه وإضعاف التحالف مع أقطابه الرئيسية. وفي العلاقة مع روسيا اتسمت العلاقات الأميركية-الروسية في عهد إدارة بوش بحدة التوتر. وأخطر ما في الأمر على المصالح الأميركية أن بعض القيادات الأوربية نظرت بتفهم لموقف موسكو من الدرع الصاروخية. وهنا جاء أوباما.

أول ما فعله أوباما إنه أعلن عن تخليه عن الدرع الصاروخية وفق الرؤية البوشية، ففرحت روسيا. لكنه تعهد بإقامة هذه الدرع لكن بتقنيات حديثة أفضل من تلك التي أراد بوش استخدامها. مع ذلك أصر كثيرون على وصف ما أعلنه أوباما تخلياً عن الدرع الصاروخية. في واقع الأمر ما تخلى عنه أوباما هو درع صاروخية لا تخدم المصالح الأميركية، وتبنى درعاً أخرى أكثر فعالية في مواجهة كل أنواع الصواريخ، ويتم بناؤها على أربعة مراحل، لتصبح في المرحلة الأخيرة قادرة على مواجهة الصواريخ البالستية. وأهم ما قام به تخليه عن فكرة نصبها في بولونيا وتشيك على أساس اتفاقيات ثنائية ودعا إلى جعلها درعاً صاروخية لكل أوربا والولايات المتحدة وحلفائهما، يتم إنجازها عبر الناتو.

بإعلانها الدرع الصاروخية مشروعاً جماعياً لكل دول الناتو أعادت الولايات المتحدة إلى الأذهان فكرة الارتباط المصيري للأمن الأوربي بالعلاقة مع الولايات المتحدة. وبهذا ثبتت أمريكا موقعها في أوربا الذي كادت تفقده لو استمر بوش في سياساته، وأسدلت الستار على خلافات بدأت تظهر بين الدول الأوربية أعضاء الناتو بسبب تعامل إدارة بوش بصورة انتقائية، مع بولونيا والتشيك فقط في الدرع الصاروخية. وفي العلاقة مع روسيا التي طالما عبرت عن رفضها للدرع الصاروخية واعتبرتها مشروعاً يستهدف كسر معادلة الردع النووي وترجيح الكفة لصالح القوة النووية الأميركية، فقد تبنى أوباما سياسة خطيرة جداً. إذ يدعو روسيا إلى درع ستؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير معادلة الردع بين القوتين النوويتين العظميتين في العالم، الروسية والأميركية، لصالح الثانية، وسيضع روسيا في موقف معقد أمام الجوار الأوربي.

في حال انضمام روسيا إلى الدرع الصاروخية فهذا يعني احتوائها أميركيا على أساس عقيدة (الدرع الصاروخية) التي ستصبح بديلاً عن العقيدة العسكرية لحلف الناتو. فأي تعاون في مشروع عسكري إستراتيجي بين مجموعة دول يؤدي حتماً إلى نشوء تكتلات جديدة تدير الأمور فيها قوة واحدة وتلعب القوى الأخرى أدواراً ثانوية توزع على الدول حسب موقعها الجغرافي وارتباطه بالظرف الدولي الراهن. على سبيل المثال ما زالت روسيا تتمتع بنفوذ قوي بين الجمهوريات السوفييتية السابقة المنضوية ضمن اتفاقيات الدفاع الجوي المشترك، وفي الحديث عن منظمات مثل منظمة اتفاقية الأمن الجماعي، رأى كثيرون أن هذه المنظمة حلف صاعد بديل عن حلف وارسو سيقف بمواجهة الناتو لمجرد تبني دول المنظمة آليات عمل مشترك في بعض الجوانب العسكرية. وعليه انضمام روسيا إلى الدرع الصاروخية بأي ظرف كان سيؤثر بصورة مباشرة على استقلالية القرار الروسي نظراً لما سيترتب على روسيا من التزامات أمام الأطراف الأخرى في الدرع الصاروخية. أما إذا رفضت موسكو الانضمام إلى الدرع الصاروخية فإن الولايات المتحدة ستقول: أنظروا إنهم يرفضون الشراكة ما يعين أنهم يبيتون العداء.وهذا أمر واقعي لأن السياسة الأميركية تسبق السياسة الروسية بكل أسف بخطوات، فالدرع الصاروخية أصبحت واقعاً يتم البحث بآليات تجسيده على الرغم من ممانعة روسيا، علاوة على ذلك تقبلت روسيا الأمر الواقع وتعمل اليوم على إيجاد مخرج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه عندما ذهبت بعيداً في دعمها لأوباما على أمل أن يحكم بدوره السيطرة الفعلية على القرار الأمريكي ويخفف من نفوذ المحافظين الجدد، لكن ها هو يضع روسيا في مأزق تخجل حتى من الإقرار به علانية، على الرغم من أن أوباما خيب آمال روسيا حتى اللحظة بعجزه تمرير اتفاقية ستارت-3 عبر الكونغرس.

لم تكن الدرع الصاروخية يوماً مجرد مشروع عسكري بل هي خطة عسكرية لتحقيق أهداف تتجاوز حدود العمليات الحربية، فهي عقيدة إن صح التعبير تهدف إلى تمكين الولايات المتحدة من تحقيق التفوق النووي على روسيا والصين معاًُ لتستكمل واشنطن بذلك مقومات القوة الدولية العظمى الوحيدة القادرة على التحكم متفردة بالعالم، وطالما كانت القوة النووية الروسية عائق أمام تحقيق هذا الهدف، فإن انسحاب الولايات المتحدة في عهد بوش الابن من اتفاقية عام 1972 للحد من الأنظمة الدفاعية الإستراتيجية المضادة للصواريخ، وتبني إدارة بوش ومن ثم إدارة أوباما الدرع الصاروخية، خطة تهدف إلى إضعاف القدرة النووية الهجومية الروسية. وما الحديث عن الحاجة بهذه المنظومة الصاروخية لدرء التهديدات الصاروخية القادمة من الشرق الأوسط سوى مبررات سخيفة تشبه مبررات الحرب على العراق بمضمونها الماكر المخادع، لأن أحداً سوى إسرائيل لا يملك القوة النووية في الشرق الأوسط، ولو كان نية الغرب التخفيف فعلاً من حدة التوتر لكان بدأ كمثل للآخرين بالتخلص هو أولاً من ترساناته التي تشكل مصدر التهديد الوحيد للبشرية. ختاماً إن خطة أوباما لنصب الدرع الصاروخية ليست سوى خطة ماكرة لن يستفيد منها أحد سوى الولايات المتحدة، ويكفي التساؤل عن موقف الصين مثلاً أو كوريا الشمالية أو دول أمريكا اللاتينية، ودول الشرق الأوسط من هذه الدرع وكل من يشارك فيها لمعرفة النتائج التي سترتب على المشاركة في الدرع الصاروخية حسب الرؤية الأوبامية.