الكاتب : ربى الحصري

من الصعب التزام الهدوء عند الحديث عن غزة، فعامين وتبقى القسوة التي حفرت في العالم لونا مختلفا، وربما أيقظت الرعب من الحرب، والمسألة كانت أقسى من ان تزول لمجرد "التهدئة" أو محاولة القفز فوق ما حدث، ورغم "الحنق" أو "الأسى" الذي استوطن على ما يبدو قلوب مجتمعاتنا لكننا مضطرون وبشكل دائم للنظر إلى ما حدث، دون أن ننسى أن الدماء لا تترك مجالا للموضوعية وأن غزة ليست مناسبة سنوية، بل انحراف حقيقي كان بإمكانه أن يحدث مجالا مختلفا داخل مجتمعاتنا.

الصورة الأولى لغزة تبدو في نسف الخيارات، فـ"أمن إسرائيل" لم يكن مهددا بصواريخ حماس بشكل يدفع لهذا الرد، لكن "أمنها" كان مهددا بفعل الخيار الموجود في غزة، فالحرب استهدفت بالدرجة الأولى محو "الظاهرة" المناقضة لما يطلق عليه "التسوية"، والفشل الأساسي أيضا لم يكن في عدم وجود قوة ضاربة أو "تأديبية" عند "الجيش الإسرائيلي"، إنما في عدم القدرة على الخروج بمسار سياسي مختلف يجعل المنطقة أكثر اقتناعا بأنها لا تملك سوى "مسار التسوية".

المعركة ضد الخيارات بدأت مبكرا في حرب 2006، وربما لم تشهد المنطقة من قبل هذا النوع من المعارك التي تبدو فيه السياسة كحملة إعلامية مكشوفة، وخلال معارك غزة شهدت أروقة الأمم المتحدة صورة ربما أقسى من المعارك العسكرية عندما خرج بعض الوزراء العرب فرحين بقرار "لا يدين إسرائيل"، حيث بدت الدبلوماسية العربية غير مكترثة بنوعية المعارك التي تحدث، أو حتى بنوعية التصفية التي تتم، وكان باستطاعة البعض أن يقف محايدا تجاه "الدمار النوعي" ويلجأ نحو الأمم المتحدة قبل أن يبحث في محاصرة العدوان.

الصورة الثانية بدت في انهيار الأولويات بالنسبة لنظام عربي مشتت، قادر على انتظار انتهاء المعركة حتى يجتمع لـ"تصفية الحسابات"، وبالنسبة لمراقب من الخارج فإن الأمر كان يبدو أكثر من مسألة تحالف مع القوة المعتدية"، لأن عمق ردود الفعل هو "مؤشر" على أن قطاع غزة هو منطقة غير مرغوب فيها عربيا، والمشكلة هي أن "العنف الإسرائيلي" تجاوز كل ما هو متوقع، وهو أمر غيب تلك الآلية السياسية العربية التي كان عليها أن تقدم صورة للعالم بأن غزة لا تعني النظام العربي... فهل نشكر "العنف الإسرائيلي" لأنه تجاوز نفسه!!

الصورة الأخيرة تبقى للوجوه البريئة التي سقطت، فهي في النهاية تقدم نوعية الخيار الذي استطاع الاستمرار رغم الحصار السياسي من قبل "المبادرة العربية" و "لجنة المتابعة"، فقتل الأطفال لا يضعنا أمام "تسوية" لأنه يحدد نوعية المستقبل الذي ينتظرنا.