في جلسة جمعتني مع منتجين تلفزيونيين قبيل نهاية العام، سمعت منهم كلاما لا يندرج في باب من أبواب العلم أو الفن أو التجارة، لا أريد أن اسرد كل أو جل الكلام فالمسألة مخجلة، ولكني سوف أقتطف جملتين ربما تضيئان ما يمكن أن يسمى عقلية إنتاجية التي تساهم في تصنيع الثقافة الاجتماعية (وبعضهم يسميها الشعبية)، هاتين الجملتين تثبتان أنه لا أحد أحسن من أحد، وفي هذا طامة كبرى أو صغرى لا فرق.

العبارة الأولى التي سمعتها من أحد المنتجين ويبدو هاشا باشا هي (أن المحطات سكرت خلص) هذه الجملة المختصرة المفيدة جدا تعني التالي: أولا المقصود بالمحطات هو المحطات الخليجية أو الممولة خليجيا، وسكرت أي أنها اشترت أو تعاقدت على الأعمال التي يفترض أن تعرض في رمضان القادم، وأي أحد سوف يقدم على الإنتاج هذا العام سوف يكون من الخاسرين وهو ما يثلج صدر المنتجين المتنافسين الذين باعوا بضائعهم قبل (ما تسكر) المحطات، إذ لا تبدو المشكلة الحالية للدراما التلفزيونية السورية هي العرض الكبير فقط، ولا مشكلة التواصي التي تتحكم بعملية الإنتاج، بل أصبح الإنتاج الرديء أو حتى البضاعة الرديئة هي زهرة السوق أو القطفة الأولى منه، فالأجزاء الثانية من أي عمل أصبح بكم المباع أو المسوق مهما بلغ من إسفاف بمعنى قطع الطريق على أية مغامرة إبداعية هي من صلب صناعة الفن ما يؤدي الى قطع الطريق على الارتقاء بالابتكار.

ولذلك على كافة المنتجين السوريين (وهم بالمناسبة وفي غالبيتهم متشابهون) أن يجلسوا في بيوتهم وينتظرون عل مصادفة ما تشغل لهم ورشاتهم التي لا يدفعون لها إلا بالقطعة، إذ لا رهان على إبداع أو على مغامرة فنية .

العبارة الثانية جاءت على شكل سؤال، وجاءت من منتج مسلسل كتبته هذا العام وكان السؤال في (غاية) ( الذكاء ) (والمعرفة) و(الإطلاع)، وكان: الى أي جمهور تتوجه؟ طبعا من المفروض أنه قرأ النص، كما أنه من المفروض يعرف بالوسط الدرامي وشغيلته من كتاب أو مخرجين الخ ... أجيته الى الجمهور السوري بالدرجة الأولى... فهز رأسه باشا، ونظر الى زملائه الذين وافقوا وأثنوا على مقولة ان (المحطات سكرت)، وفي اليوم التالي اعتذر عن الإنتاج مع أن العقود والتنازلات قد حصلت، سؤال واحد ووحيد لا غير، ربما انتظر هذا المنتج العارف جوابا سمساريا، كأن أقول له ومن فوري يا خسارة لو كان باستطاعتنا أن ننتج نسختين أو ثلاث واحدة بالعربية والباقي بالإنكليزية أو الفرنسي لأني في عملي هذا أتوجه الى كل البشر في أربع أنحاء المعمورة حيث الرزق على قفا ميت يشيل، ربما كان وافقني وأنتج العمل ليس من باب تصديقه لي بل من باب الإنسجام الفهلوي بين أبناء المصلحة (المهنة) ، فربما شعر بالإهانة نتيجة جوابي المتثاقف الخارج عن أصول المهنة المحدثة ، فهذا الجواب ربما كان كي لا أقول أنت مجرد سمسار لماذا لا تجرب أن تكون فنانا أو مبدعا أو شغيل ثقافة طالما أنت تطلب هذا البرستيج ومن أجل هذا وعلى حافة البزنس تعمل كمنتج حبا بالثقافة الأصلية لبلدك ، ولكن الطبع غلب التطبع وطغت صفات السمسار على مغامرات الإنتاج ، فهو يريد الأثنين معا، أن يقدم نفسه للمجتمع وللإعلام على أنه مثقف لوذعي يساهم في الحركة الإبداعية لبلد شرط أن يكون ربحه مضمونا، مع أنه لا يستطيع أن يطلب هذا الطلب (أي مضمونا) في تجارة العقارات أو البلاستيك الخ إلا إذا كان سمسارا .

في العبارتين ندخل معنى التخلف من أوسع أبوابه، فالتنبلة والأرباح السهلة هي المطلوبة، أما المغامرة والتنافس (ربما لأن المنتجين يعرفون بعضهم جيدا) بالنوعية فهي مستبعدة ، فأي مجال أربح بكثير من بزنس الدراما إذا اقتطعنا منها البرستيج الثقافي أو العلاقات العامة .إذا هي دراما بهذه الشروط ، فإذا أحببتم تعالوا وسوف أعطيكم دم قلبي (فلوسي) وإذا لم تعجبكم فلسوف أفتتح معملا للشبس أو أستورد بروفيل ألمنيوم وأبيعه في السوق. إذ ليس هناك ضريبة ورسوم على التخلف لأن المجتمع برمته سوف يتقاسم هذه التكلفة .

هكذا نبدأ العشرية الثانية من القرن الجديد دراميا ، بألعاب الحواة الذين يخرجون الأرانب من جيوبهم وعلينا الاندهاش مع أن الأرانب في الجيوب واضحة من قبل بدء العرض .

الثقافة والفن مكلفان ويجب أن يعودا بعائد على منتجيهما ،ولكن هل هناك حقيقة منتجين يفهمون ما تعني اقتصاديا عملية إنتاج الثقافة ؟؟؟