الكاتب : طه عبد الواحد

منذ أن أطلق رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين انتقاداته الحادة للحملة العسكرية على ليبيا، وبعد أن أطلق الرئيس الروسي ميدفيديف تصريحات بهذا الشأن متناقضة بذاتها ومع تصريحات بوتين في آن واحد سارعت وسائل الإعلام المحلية والعالمية إلى الحديث عن خلافات بن الرجلين وعن استغلال كل منهما الأزمة الليبية ليعلن بداية غير رسمية لمعركة الانتخابات الرئاسية في روسيا والتي ستنتهي بموعد الانتخابات في آذار العام القادم.

وكالة الأنباء الروسية نوفوستي رأت أن "تصريحات أدلى بها الرئيسان الروسيان دميتري ميدفيديف وفلاديمير بوتين في يوم 21 مارس دلت على اختلاف رأيهما في ما يحدث في ليبيا. لقد ندد رئيس الحكومة بوتين بقرار مجلس الأمن الدولي القاضي بفرض عقوبات على النظام الليبي، مشيرا إلى أن هذا القرار يشبه الدعوة إلى الحملة الصليبية في العصور الوسطى. وأكد بوتين أن هذا رأيه الشخصي حيث أن السياسة الخارجية من الأمور التي تدخل في صميم اختصاصات رئيس الدولة. وفي مساء نفس اليوم ندد رئيس الدولة ميدفيديف بما جاء في تصريحات رئيس الوزراء بشأن ليبيا، قائلا إنه لا ينظر إلى هذا القرار باعتباره غير الصحيح. وأرجع ميدفيديف أسباب ما يحدث في ليبيا إلى ما وصفه بالتصرفات الوقحة للقيادة الليبية وجرائمها ضد شعبها. وبالنسبة لما وصفه بوتين بالحملة الصليبية، شدد ميدفيديف على عدم جواز استخدام "ألفاظ تؤدي إلى صدام الحضارات".

ونقلت صحيفة "فيدوموستي" عن موظف في الحكومة قوله إن ما قاله رئيس الحكومة بوتين لم يأت بالصدفة، فالمطلوب تصحيح موقف روسيا من المسألة الليبية. وأضاف الموظف أن رئيس الحكومة سيعود للحديث في هذه المسألة حين يزور صربيا في 23 مارس. وقالت صحيفة "كوميرسانت" إنها ليست المرة الأولى التي لم يتفق فيها ميدفيديف وبوتين فيما بينهما بشأن هذه أو تلك من القضايا السياسية الخارجية والداخلية ولكنها هي المرة الأولى التي تبدء فيها خلاف حول قضية سياسية خطيرة خلال بضع ساعات. واعتبر المحلل السياسي بيلكوفسكي أن كل ذلك جزء من الاستعدادات لإعادة انتخاب ميدفيديف رئيسا لروسيا. ورأى المحلل أن كلام ميدفيديف موجه أولا إلى الغرب لإظهار أنه يوجد في روسيا من يرفض أن توافق روسيا الدول التي تقصف ليبيا، ولهذا يجب أن تؤيد هذه الدول إعادة انتخاب الرئيس ميدفيديف.

جدير بالذكر أن روسيا كانت قد أيدت قرار العقوبات رقم 1970 بحق ليبيا، وطالبت بقرار أشد، إلا أنها امتنعت عن التصويت على القرار رقم 1973 القاضي بإقامة منطقة حظر جوي فوق ليبيا. اللافت إنه حتى قبل بدء عملية إقامة هذه المنطقة فوق ليبيا وقصف قوات الدول المنخرطة في هذه العملية لمواقع قوات القذافي بهدف حماية المدنيين، برزت معارضة الرأي العام الروسي بأوسع شرائحه لهذه العملية، وانعكس هذا الموقف في مقالات تناولت فيها الصحف الوضع في ليبيا وأدانت بصور مختلفة ما اعتبرته "تدخلاً خارجياً بشؤون داخلية" و"عملية عسكرية غير واضحة المعالم". وما قاله بوتين، حتى لو كان موقفاًَ شخصياً، إلا أنه يعكس موقف الشريحة الأكبر من المواطنين الروس، أي أن موقفه متوافق مع الرأي العام الروسي. من جانب آخر فإن موقف بوتين واضح لا لبس فيه ولا تناقض.

أما ميدفيديف فإن فيما قاله تناقض واضح وغريب، فهو غير راض عن سلوك القذافي ويحمله مسؤولية هدر الدماء في ليبيا، وغير راض في الوقت نفسه عن العملية العسكرية التي تهدف إلى "حماية المدنيين" من قوات القذافي، ومع هذا فهو لا يرى بأن قرار مجلس الأمن رقم 1973 قراراً خاطئاً (ليس صحيحاً). هذا التناقض انتقل إلى البرلمان الروسي (الدوما) الذي أصدر مشروع قرار حول ليبيا يوم الأربعاء 23/3/2011، قالت صحيفة "نيزافيسمايا غازيتا" الروسية إن صيغته الأولية كانت أقرب إلى موقف بوتين، إلا أن سيرجي بريخودكو مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية ويوري أوشاكوف نائب مدير إدارة رئيس الحكومة بذلا جهداً في وضع الصيغة النهائية لمشروع قرار الدوما، فكانت النتيجة أن صدر القرار بصورة مطابقة لموقف ميدفيديف.

وحسب الصحيفة الروسية (نستشهد بها لتوضيح رؤية الإعلام الروسي لموقف الكرملين من الوضع في ليبيا) أشار قرار البرلمان إلى أن الوضع في ليبيا يتطور وفق سيناريو غير مريح، والمقصود هنا المواجهات بين كتائب القذافي وقوى المعارضة، ومن ثم يُذكّر قرار الدوما بان روسيا أيدت قرار مجلس الأمن 1970. ومن ثم يتهجم قرار البرلمانيون الروس على القرار رقم 1973 لأنه لا يعطي "تحديداً واضحاً لحدود استخدام القوة العسكرية" لإقامة منطقة الحظر الجوي. وفي الفقرة التالية من قراره يمتدح مجلس الدوما امتناع روسيا عن التصويت على القرار 1973، لكن يعود القرار الروسي من جديد ليوجه انتقادات لهذا القرار الدولي، لأن بعض الدول فسرته بصورة مختلفة وهذا لا يناسب روسيا. ومن ثم يوجه البرلمان الروسي الدعوة إلى برلمانات القوى المنخرطة في العملية العسكرية ضد ليبيا للعمل على إيقاف هذه العملية، ويطالب البرلمانيون الروسي الرئيس ميدفيديف بأن يثدر توجيهات للخارجية الروسي كي تعمل ما بوسعها ليتبنى مجلس الأمن قراراً "عادياً"، معتبرين القرار رقم 1973 غير عادي. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: إذا كانت روسيا تطالب اليوم بإيقاف العملية العسكرية ضد ليبيا فلماذا لم تلجأ لاستخدام حقها بالفيتو في مجلس الأمن منذ البداية؟ ففي الحالتين سيكون عليها تحمل تبعات مواقفها.

الزاوية الأخرى التي نظر المحللون من خلالها إلى التناقض بين تصريحات الرئيس ميدفيديف ورئيس الحكومة بوتين هي الانتخابات الرئاسية التي ما زالت خطط كل من الرجلين غير واضحة بشأنها حتى اللحظة. وهنا رأى كثيرون أن تصريحات ميدفيديف جاءت ضمن سياسته القائمة على تحسين العلاقات مع الغرب بأي ثمن، حتى لو تطلب الأمر وصف تعاون مفروض حاجة مصلحة بين موسكو وواشنطن في الملف الأفغاني وملف مكافحة الإرهاب على أنه دليل نجاح عملية "إعادة تشغيل العلاقات الروسية-الأميركية"، وتجاهل - من جانب آخر- لبقاء الخلاف الجوهري بينهما بشأن الدرع الصاروخية، مثلاً، مع عدم إفساح واشنطن المجال لموسكو كي تضطلع بدور أكثر فعالية في عملية التسوية في الشرق الأوسط، كمثال ثان. في هذا السياق يبدو واضحاً، وليس في كيفية تعاطيه مع القضية الليبية، بل وفي أكثر من قضية، أن ميدفيديف يعمل على إظهار العلاقات بين روسيا والغرب على أنها تحسنت وفق الرؤية الروسية وبما يتناسب مع مصالح روسيا، حتى لو كان الواقع يشير إلى عكس ذلك تماماً.

وبينما يوجه ميدفيديف رسالة إلى الغرب كي يدعم ترشيحه للرئاسة عام 2012، حسب صحف روسية، فإن بوتين (لو نظرنا إلى تصريحاته من زاوية المعركة الانتخابية) قرر أن يتوجه إلى الداخل الروسي ويعلن موقفاً من تلك المواقف التي طالما ساعدته بالحفاظ على مستويات عالية من التأييد الجماهيري لشخصه كزعيم أخرج روسيا من ضعفها وأعاد لها هيبتها. من نافل القول هنا أن الرأي العام الروسي (موسكو وبطرسبورغ لا تمثلان الرأي العام الروسي كله بل جزء يسير منه) يرحب دوماً بالمواقف التي تنم عن تمسك باستقلالية السياسة الروسية وعدم تبعية القرار الروسي لرغبات ومصالح الغير، لاسيما الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة. فإذا كان هدف بوتين من تصريحاته كسب المزيد من التأييد الشعبي في الانتخابات المقبلة فيبدو إنه حقق هدفه.

لكن وحرصاً على عدم زرع خلافات بين ثنائي السلطة أكد بوتين أن قرار السياسة الخارجية من صلاحيات الرئيس وإنه لا انفصام في الموقف الروسي لكنه استدرك قائلاً: " ليس هذا ما يجب أن نفكر به، بل يجب أن نفكر بوقف القصف الصاروخي، أن نفكر ونصلي -قال هذه العبارة بهدوء جنائزي حسب تعبير صحيفة كومرسانت الروسية- من الضروري أن نفكر جميعا في الضحايا الذين يتزايد عددهم نتيجة للحرب الأهلية ونتيجة لتوجيه الضربات، وعلينا أن نفكر في هذا وخاصة المتورطون في المأساة، فعليهم أن يتضرعوا إلى الله أن ينقذ أرواحهم".