الكاتب : نضال الخضري

لأسابيع كانت دمشق تطرق العقل فتعيدني لحلقات البحث عن الذات، وكأن شكل سورية يتخذ رقعة ممتدة لا تكفيها أجساد النساء أو "الحرائر" حسب آخر إبداعات شبكات التواصل الاجتماعي، لكن المقلق أنني لم أكن أجد التعبير المناسب لكسر اعتيادية المصطلحات التي ظهرت تباعا مع توالي أيام "الجمعة"، ففي لحظة سريعة كنت أعود إلى كتب التراث رغم أن ما يجري هو من الحاضر بكل ما يحمله من إيقاع مضطرب.

في أيام الاضطراب السوري اكتشفت ضيق الثقافة بالحدث، وربما ضعف التعبير الإعلامي في وصف ما يجري، ففي كل مساحة الفضائيات أو الصحف أو حتى المواقع الإلكترونية لم نستطع الخروج من "دائرة المعركة"، وكأن الأمر يحدث على جبهتين رغم أنه لم يكن يملك خطوط تماس واضحة ولا "خط وقف إطلاق النار"، إلا أن الأمر سار على طريقة الكر والفر والغزوات، وظهر الحدث السوري جارحا بما يكفي لجعل الحياة صعبة رغم أنه لم يكن بنفس "الحدة" التي تستدعي استقطابا مصيريا.

ضيق الثقافة كان يعني بالنسبة لي على الأقل أننا لم نكن قبل الخامس عشر من آذار هادئين بل مقتنعين بأن الأزمات يمكن تجاوزها بالآليات السياسية فقط، وأنها تستطيع المرور بشكل عابر حتى ولو خلفت أثمانا ثقيلة، ربما كانت قياساتنا تحمل معها خبرات المواجهات مع "عدو" واضح، لكن الحروب الافتراضية مختلفة، والبحث عن "الديمقراطية" مختلف أيضا وله تصوراته وطريقة تفكيره التي لا يمكن أن تكون على شاكلة المعارك.

اجتاحتنا المصطلحات التي تكسرت سريعا لأن الحدث كان أقسى منها، واقتباس الكلمات من "أحداث" الآخرين لم ينشط الإبداع الذي سار على مساحة من القلق والإرباك، وفي النهاية كان المشهد مليئا بغبار العراك بالمواقف، لكن الأزمة لم تتوقف ولم ترسم معها مسارا جديدا او مختلفا، وجاءت "جمعة الحرائر" لتترك باسمها فقط نوعا من الأسى لبقاء الأنثى وفق توصيف "الأمة" أو "الحرة"... ألا يستحق هذا الأمر تمردا حتى على فكرة الثورة بكلمات الماضي؟!

تجاوزا يمكن أن نفكر بما حدث على أنه كسر لاعتياد الحياة السورية التي على ما يبدو بدت رتيبة في بعض وجوهها، لكن هذا الكسر لا يمكن أن يصبح حقيقة إذا لم نستطع وضع تصورنا وبكلمات تنتمي لعالمنا... كان ما يحدث نوعا من تحدي الحاضر بذهنية مختلطة ما بين الرغبة في مستقبل مختلف وآثار التراث الطافية على سطح تفكيرنا، لذلك فإن الاضطراب أمر مفهوم، وعدم القدرة على تفكيك ما حدث هو أكثر من طبيعي، وظهور شعارات مثل "الدولة المدنية" مترافقة مع شعارات أخرى مذهبية توحي بأن الأمر فتنة ولكنها موجودة في العقل أولا، وربما في عدم القدرة على خلق توليفة مبتكرة للمستقبل دون استعارات من كتب التاريخ وثورة الزنج والقرامطة وربما دول الطوائف في الأندلس.

الأزمة لا يمكن أن تنتهي دون حسم لـ"فتنة العقل" الذي دخل مسارا "لا ثقافيا"، فخلف وراءه معارك مثقلة بالاحباطات...