الكاتب : ربى الحصري

إن صح التعبير أنا من جيل ((اتفاقيات السلام))، فلا أذكر من حرب تشرين إلا صفارات الإنذار التي كانت تدوي في دمشق، وأنا أيضا من الجيل الذي كان التحدي الأساسي له هو "تثبيت مبدأ المقاومة"، ورغم ذلك فإن النكبة مرت في المناهج المدرسية كتاريخ فقط يعلن "نكبة عامة" لشرق يتم رسمه من جديد كل عقد من السنوات.

بالمعنى العام لم تأخذ النكبة في داخلي مساحة خاصة لأن "كلية القضية الفلسطينية" كانت تجر تفكيري نحو مساحات جديدة، فأن أفهم الصراع العربي - الإسرائيلي فهذا يعني أن علي قراءته من زاوية علم الاجتماع بالدرجة الأولى قبل أن أقوم بأي إسقاطات سياسية، وبالتأكيد فإن مثل هذه القراءة ليست مريحة وهي تدفع للقلق أكثر من أي قراءة سياسية، لأنها توضح عوامل اجتماعية "كابحة" في مسألة الصراع، وتبين من جانب آخر مدى التداخل الذي فرضه الاحتلال على المجتمعات العربية عموما، لكن مسألة النكبة دخلت إلى عالمي من موضوع "حق العودة" الذي بدا في السنوات الأخيرة عنوانا سياسيا في ظل الحديث عن مبادرة عربية ربما سقط هذا الحق منها بحكم العامل السياسي الضاغط على النظام العربي.

في المقاربة الأولى لمسألة النكبة ومن وجهة النظر الأوروبية فإن ظهور "إسرائيل" شكل حدثا استثنائيا، وربما ديمقراطيا وتقدميا حتى نهاية العقد الثامن من القرن العشرين، فهذه الصورة هي التي تسيطر على مساحة أجيال أوروبية عاشت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية دون أن تعيد قراءة "الشرق" بمنطق نقدي، فـ"إسرائيل" بدت وكأنها خارج أي علم أو دراسات أكاديمية، فأي تناول لها ينسحب فجأة ودون سابق إنذار إلى قضية "الهولوكوست"، وحتى اللحظة فإن هناك أوساط كثيرة في أوروبا من الصعب التحاور معها بشكل أكاديمي او منطقي بهذا الخصوص، وربما لهذا السبب كان "حق العودة" أو "النكبة" بذاتهما موضوعين بعيدين عن الأضواء...

في الشرق الأمر مختلف تماما، لكنه أيضا سار في طريق وعرة ومختلطة، امتزج فيها الحق بقضايا سياسية منفصلة كليا عن اغتصاب فلسطين، ومن القراءة يتبين أن المنعطف الحاد كان في حرب 1967، لأنها بدأت تغير "النخب الثقافية" التي أرادت الارتداد على الاتجاهات السابقة لهزيمة حزيران، وهو أمر خلق خلطا جديدا في مسألة "الحق" بالنسبة لفلسطين، وبعد عقد كامل من هذه الهزيمة أصبح الدفاع عن "المقاومة" قضية بذاتها بقيت تتفاعل حتى ظهرت الانتفاضة الأولى في فلسطين لتوضح أن التيار الفكري الذي خلق "الكفاح المسلح" تبدل تماما وذلك مع ظهور حركة حماس على ساحة النضال الوطني الفلسطيني.

ما هي الأهمية في الحديث اليوم عن هذا الموضوع؟ باعتقادي أن مسألة التيارات الاجتماعية كانت تشكل نوعا من الاحتكار لصورة الموضوع الفلسطيني، وبمعنى آخر ففي "الشرق" هناك نوع من اكتساب الشرعية عبر الموضوع الفلسطيني، في وقت يجب أن تكون هذه المسألة جوهر الحراك الاجتماعي أي العودة إلى مسألة "صراع الوجود"، لأن "إسرائيل" بذاتها تشكل "أزمة وجودية" على الأخص مع طرح "يهودية الدولة" التي كانت غائبة ولو سياسيا في المراحل الأولى للصراع.

أما في الغرب فإن العودة لمسألة يهودية الدولة ربما لم يشكل نوعا من "الارتداد الإسرائيلي" على مسألة الديمقراطية أو حتى على "التقدمية الدولية"، إن صح التعبير ،والسبب الأساسي في كونها أصبحت "ظاهرة متقادمة"، فهم يفضلون البحث في المشاكل السياسية المستجدة طالما أن الأمر محصور في عرب متطرفون وآخرون معتدلون، وطالما ان الحراك الاجتماعي العربي لم ينتج ظواهر جديدة على مستوى "أزمة الوجود" في ظل قيام "إسرائيل".

بالفعل أنا لا أستطيع الكتابة عن النكبة لأنها حدث مستمر وليس تاريخا، فهي مازالت تحدد صورتنا وطريقة تفكيرنا وربما سترسم لاحقا مستقبلنا... فنحن وبذكرى النكبة امام تداعيات جديدة لم تفرضها "الثورات العربية" بل مسيرة العودة التي أثبتت في الجولان ومارون الراس والضفة الغربية وغزة، أن حيوية الموضوع الفلسطيني لا يمكن اختصاره بعناوين سياسية.