أصبح من الواضح أن النظام السياسي في سورية لن يعود كما كان قبل الأحداث الأخيرة، وأنه هناك مجموعة من الاستحقاقات التي سنواجهها قريباً، والتي سترسم مستقبل سورية لسنوات قادمة.
في الوضع الميداني:
للأسف فالوضع الميداني محزن، فمن الواضح أننا قد دخلنا في دوامة عنف لا يبدو انها ستنتهي قريباً، وسيستمر هذا الجرح النازف لأسباب كثيرة ربما كان من أهمها انكشاف المنظومات الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية وباقي المنظومات بطريقة تؤكد أن الجمهورية الأولى التي تشكلت منذ عشرات السنين لم تعد تلائم الوقائع الجديدة على الأرض، وقد أصبحنا أمام فريقين لكل منهم جهازه الإعلامي ومفكريه ومناصريه ورجال دينه ورجال سياسته، وله روايته المناقضة للطرف الآخر والتي يدافع عنها، ويعمل الفكر الجمعي لدى كل طرف في خدمة إطالة أمد وتشتيت هذا النقاش الذي لم يعد يقدم اي قيمة مضافة، ومن الواضح أن الأمور قد تطورت بطريقة حلزونية لا يمكن إيقافها، وبالتالي فإن أي جهد يناقش الأمور في ظل الجمهورية الأولى أصبح غير مجد. ونعتقد أن الوضع الميداني سيستمر خلال المرحلة الانتقالية، التي نرجو أن لا تستمر لفترة طويلة.
هل يريد الجميع بناء جمهورية ثانية؟
رغم أننا كنا نعتقد انه من البديهيات أن نهاية الجمهورية الأولي ستعني تشكيل جمهورية ثانية، لكن من الواضح أنه ليس كل الأفرقاء يرغبون في ذلك، فهناك فريق يحاول إعادة الحياة إلى الجمهورية الأولى، وفريق ثان يريد أن يسارع في إيجاد فراغ في السلطة قبل بناء الجمهورية الثانية، ولكننا نعتقد أن الغالبية تريد الانتقال إلى الجمهورية الثانية مع مايتطلبه ذلك من تغييرات دستورية وقانونية وسياسية واقتصادية واجتماعية، ولكن النوايا لاتكفي وحدها للتأكد من أننا سننتقل إلى الجمهورية الثانية بنجاح.
هل المطلوب جمهورية ديمقراطية؟
في بداية الأحداث خرجت جماهير المتظاهرين تطالب ب"الحرية"، ورغم أنها طالبت بالحرية إلا انها كانت تعرض مجموعة من المظالم، وبالتالي نعتقد أن الشعار الدقيق الذي انطلقت من خلاله التظاهرات هو "العدالة والحرية"، ورغم مضي الأشهر فقد تجنبت الجهات المسؤولة عن الحراك تحديد أي توجه سياسي، أي ما هي طبيعة النظام السياسي الذي سيمكن من تحقيق شعار"العدالة والحرية". وقد يعتقد البعض أن السعي لتأسيس نظام ديمقراطي هو أمر بديهي، وقد اعتقدنا هذا إلى أن تم الإعلان في مؤتمر أنطاليا عن التوجه نحو إنشاء، أو مجلس وطني انتقالي وإعداد مسودة دستور جديد، وقد سارع "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي" لإعلان رفضه لهذا التوجه وقد جاء في تبرير ذلك مايلي: "البحث في وضع مسودة دستور جديد لسوريا المستقبلية، وهذه النقطة تحديداً، نرى أنها من حق الشعب السوري عندما تجتمع تمثيلاته المختلفة في الداخل والخارج في مؤتمر عام للحوار الوطني، يعقد داخل سورية".
التوجه نفسه ظهر أثناء عقد ملتقى نشطاء الثورة السورية في اسطنبول، حيث ركز فقط على دعم دور مؤسسات المجتمع المدني في بناء سورية الجديدة، وهنا نعتقد ان الأمور تصبح مستغربة، فنموذج الحكم الرشيد Good Governance حول العالم يضع مؤسسات المجتمع المدني ضمن منظومة متكاملة من المؤسسات الديمقراطية، وليس هناك أي نموذج حول العالم يقتصر على مؤسسات المجتمع المدني، وذلك بالرغم من قناعتنا بأهمية دور مؤسسات المجتمع المدني سواء كانت محلية الطابع أو أكثر اتساعاً، إلا انها ليست بديلاً عن المؤسسات الديمقراطية الوطنية.
ماهي أسس بناء الجمهورية الثانية؟
نعتقد أننا مازلنا في مرحلة ضبابية في عملية بناء الجمهورية الثانية، فالمعارضة لم تقم حتى تاريخه بتقديم أي برنامج سياسي واضح حول الجمهورية التي سيتم إنشاؤها، وهذا ربما يشير إلى وجود أكثر من تصور (بشكل مشابه للحالة في مصر الآن)، والسلطة أيضاً مازالت مترددة في تصريحات مسؤوليها حول مرتكزات الجمهورية الثانية، وقد حاول مؤتمر الدوحة الذي عقد مؤخراً بعنوان "سوريا بين خيارات ومصالح القوى السياسية والاجتماعية" أن يجب عن هذه الإشكالية، ولكننا لاحظنا أن معظم المداخلات ركزت على انتقاد الجمهورية الأولى، وذلك ربما باستثناء مداخلة الدكتور سمير العيطة التي نعتقد أنها ناقشت بعض ملامح الجمهورية الثانية بطريقة جدية.
وختاماً، نعتقد أن الطريق الوحيد المضون للتحول هو في وضع أسس للجمهورية الثانية، ورغم أننا سنتوقع خلافات حولها إلا أن كل تأخير في وضع أسس الجمهورية الثانية يعني غرقاً أكبر في دوامة العنف والعنف المضاد، والذي لايمكن أن يصب في المصلحة السورية الوطنية.