«الديمقراطية اهم من الاستقرار في الشرق الاوسط».. تلك هي الرسالة التي كشفت عنها وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس في مصر, بعد ان اطلقت يد شارون وحكومته الاجرامية للتنكيل بالفلسطينيين, وسوقت المفاهيم الامبراطورية, وصعّدت من حملتها العدوانية على سوريا ولبنان بذرائع كاذبة ومكشوفة,

لتعميق الازمات الداخلية وزرع الشقاق بين البلدين بعد ان ثبت لها بالفعل ان مفاعيل سياساتها السابقة لم تثمر بفضل وعي شعبنا وادراكه لمخاطر العاصفة التي تجتاح المنطقة.

بهذه العنجهية التدميرية ترسم واشنطن سياستها الشرق اوسطية, تزرع الفتنة بين ابناء الشعب الواحد, وتضلل الرأي العام العالمي, وتمارس الضغوط على العرب, لتعميم الفوضى في المنطقة, ونسف كل الثوابت السياسية الوطنية والقومية, بما يسمح بخلق صراعات داخلية لضرب الاستقرار, وفتح المجال امام تيارات تناهض الانتقال الهادئ نحو الاصلاحات الداخلية التي تعبر عن حاجة شعبنا, وتسهم في تحصين مجتمعاتنا في مواجهة المشروع الاميركي الصهيوني.

انه دون شك الطابع الكارثي لسياسة واشنطن التي صاغت نهجها الانتقامي بخطة مبرمجة قائمة على الاعتداء والسيطرة على بلداننا, وطمس هويتنا القومية والنضالية لتفكيك مجتمعاتنا وإعادة تركيبها بما ينسجم مع مشروعها الذي يواجه تحديات كبيرة في المنطقة نتيجة تنامي الشعور الشعبي بالكراهية لامبراطورية الشر, واتساع جبهة المقاومة, مما وضع الادارة الاميركية في ازمة حقيقية انتجت دعوات متزايدة من قبل الشعب الاميركي لسحب القوات العسكرية من العراق, لانقاذ ما يمكن انقاذه من هيبة اميركا وجنودها الذين اصبحوا هدفاً سهلاً للقوى الرافضة للاحتلال.

وللأسف ان البعض ممن ارتهن لطفرة الديمقراطية الاميركية, نسي او تناسى عن قصد او جهل قراءة الاحداث جيداً, وتعامل مع نتائج الحملة الاميركية على بلداننا, متجاهلاً اهدافها الحقيقية التي كشف عنها «دافيد راي غريفن» بكتابة شبهات حول احداث 11 ايلول €سبتمبر€, والذي قام بعمل كبير لتعرية الرواية الرسمية حول الحدث الذي غير مجرى التاريخ, مشككاً بصدقية الادارة الاميركية التي كانت تبحث عن «بيرل هاربر» جديد لتبرير استخدام القوة العسكرية, وايجاد ذريعة لشن الحرب على ما يسمى «الارهاب» عبر قانون امبراطوري متسلط.

لن نلج كثيراً في ما توصل اليه «غريفن» استاذ فلسفة الدين في كلية اللاهوت بجامعة «مونت» في كاليفورنيا والاسئلة التي اثارها بدعوته الحية الى البحث عن الحقيقة في الحياة السياسية الاميركية, وكشف التضليل المريع الذي مارسه مؤلفو القصة الرسمية, لكسب التأييد الشعبي للعمل العسكري في مستويات موازية لردة الفعل الشعبي على «بيرل هاربر» واتباع سياسة امبريالية مفروضة على العالم اشد عدوانية من ذي قبل.

ولكن السؤال الذي فرض نفسه بقوة على من ارتضى ان يجعل من نفسه دمية, او اداة لواشنطن, لتدمير مجتمعاتنا, وتعميق ازماتها, والتشكيك بنمط عيشنا وحريتنا وقيم واستقرار بلداننا. هل يدرك مغزى الانتقادات العالمية للسياسة الاميركية وأبعادها التي تبدو اشد من أي وقت مضى, حتى اكثر مما كانت عليه الحال اثناء حرب فيتنام؟

الحريات السياسية والاعلامية التي تمارس دون ضوابط على المنابر الاعلامية العربية, لا تعني بأي شكل من الاشكال اتساع مساحة «الديمقراطية» المقبلة مع الرياح الاميركية الملوثة برائحة الدم البريء الذي دفن تحت انقاض برجي التجارة العالمي, لأن الديمقراطية منهج وقيمة وعقيدة يعتنقها الناس ويمارسون من خلالها حرية التعبير للمساهمة في تحصين المجتمع من الفساد والنهوض بأداء القطاعات الاقتصادية والاجتماعية, وتعزيز قدرة مجتمعاتنا على الصمود في وجه المخططات والمشاريع الاستعمارية, ومن البديهي ان نسأل المغرمون بالديمقراطية الاميركية هل سمعتم فعلاً عن تقييد الحريات المدنية والاعلامية في الولايات المتحدة الاميركية بعد احداث 11 ايلول €سبتمبر€؟!

فاقد الشيء لا يعطيه, والتعبئة السياسية التي شهدتها الساحتان السورية واللبنانية خلال الفترة الماضية, لا يمكن قراءتها بمعزل عن التداعيات السلبية لسياسة واشنطن في العراق وفلسطين. بلدانا تعرضا لزلزال عنيف لأن واشنطن تدرك ان سوريا ولبنان يمتازان بخاصية وطنية لم تتأثر كثيراً بالتحولات الاقليمية والدولية وتداعياتها, وباعتبارهما لم ينجزا مهامهما الوطنية والتاريخية, كانا في مقدمة المستهدفين في المنطقة.

لبنان لا يزال صاحب الانجاز الوطني الاهم المتمثل بانتصار المقاومة على العدو الصهيوني وتحرير الجنوب, وفي الوقت نفسه لم يتخل عن مصدر قوته التي كرست توازن الرعب مع العدو الصهيوني. احتضن المقاومة, واعتبرها واحدة من اهم عوامل الاجماع الوطني التوافقي بين القوى السياسية والتيارات الوطنية كافة التي اعتبرت سلاح المقاومة خطاً احمر, ورفضت توطين اللاجئين الفلسطينيين تحت أي ذريعة او حل اقليمي يكون على حساب عودة الشعب الفلسطيني الى ارضه.

اما سوريا فانها وبالرغم من كل الضغوط السياسية التي مورست عليها. فلا تزال تملك الحصانة الكافية المانعة الممانعة لأي تفريط في الارض والحقوق المشروعة, فالاجماع الشعبي حول الثوابت السياسية الوطنية والقومية, جعل من دمشق واحدة من اهم العقبات في وجه المشروع الاميركي الصهيوني, ولهذا كان لا بد من اخذ البلدين الشقيقين دفعة واحدة لشطبهما من الخريطة السياسية. ولأن القوى الدولية تسعى الى الدخول من باب اخطاء السلطة التي يتم التعبير عنها في المجتمع الذي يفرز اصواتاً وقوى معارضة يمكن توظيفها في الحملة المحكمة الصنع, كان لا بد من الاستثمار في الفوضى والدم لتغييب دور الدولة, وخلق الازمات التي تعيد انتاج الصراعات الداخلية, والتي تؤدي بدورها للخلط بين الثابت والمتحرك في المهام الوطنية.

وبالتأسيس على ما تقدم, نستطيع القول ان الانجازات المرحلية التي تحققت في سوريا من خلال مؤتمر الحزب, وما اسس له على صعيد تدعيم حصانة المجتمع, وما تحقق في لبنان نتيجة الاستحقاق الديمقراطي المتمثل بالانتخابات النيابية, وما رافقها من تأكيد كل القوى المتنافسة على العيش المشترك, والاجماع على الثوابت الوطنية والقومية, ولا سيما احتضان المقاومة الوطنية, واستشراف عوامل النهوض, اثبت بالفعل ان البلدين الشقيقين يملكان الحصانة الذاتية, وان أي استحقاق وطني يزيد من صلابتها, وهذا ما اكدته الايام الماضية حيث ان سوريا ولبنان لم يدخلا غرفة الانعاش, ولم يسقطا في مستنقع الازمات المصطنعة, بالرغم من كل العوامل السلبية الناتجة من مفاعيل احتلال العراق والقرار 1559.

الخاصيات السورية اثبتت انها لا تزال قادرة على انتاج الاصلاح الذي يستجيب الى حاجات المجتمع, وان دور الدولة بادارة البنية الاقتصادية والاجتماعية لم يضعف, باعتباره يستند الى اساس مادي وتاريخي, قادر على التعبير عن حاجات المجتمع, مما اجهض المحاولات من قبل البعض للخروج عن الواقعية. والخاصيات اللبنانيات اثبتت بالفعل ان العودة الى حقبة السبعينيات مستحيلة, وهناك حصانات عديدة منعت تحويل الشهيد رفيق الحريري, الى معروف سعد آخر, فاستبقت القوى الوطنية محاولات التضحية بالقيم الوطنية, واعادت القطار الى سكته الصحيحة, ضاربة عرض الحائط بكل محاولات اشعال المعارك الطائفية التي صاغها السفير الاميركي في بيروت بأسلحة «الديمقراطية» المزعومة.

لن نبالغ عندما نؤكد ان سحابة الصيف التي انتجت بعض الخلل في العلاقات السورية اللبنانية مرت بهدوء, فالتحولات في البلدين الشقيقين حافظت على الثوابت, واصابت المتحرك منها, وهو ما يجب ان يدفعنا الى معرفة الهدف من استمرار سفح الدم البريء, الذي راح ضحيته بعض الرموز الاعلامية والسياسية, وإن كان اتهام سوريا, وجهاز الدولة في لبنان, جاهزاً على لسان البعض, فإن الحقيقة الغائبة المغيبة يمكن معرفتها بالتحليل المنطقي للاهداف المنتقاة بخبث, وطريقة تنفيذ الجرائم, وكذلك من خلال التدقيق بتاريخ الضحايا ومواقفهم, وموقعهم في المعارضة, وعلاقاتهم الحقيقية بأصحاب التصريحات ومطلقي الاتهامات, وعند ذلك نصل الى الحقيقة المرعبة التي تقول ان الهدف الاميركي الصهيوني, ادخال لبنان في دوامة الفوضى وحمامات الدم, وعند ذلك لا يهم ماذا سيدفع من دم ابنائه ومقدراته الاقتصادية, واستقراره ودوره الوطني والقومي, وعلاقاته المميزة مع سوريا. ترى هل يدرك المبشرون بديمقراطية العام سام, الحاملون للمشروع الاميركي الاسرائيلي, هذه الحقائق, وهل بمقدورهم الربط بين احداث 11 ايلول €سبتمبر€ التي وصفها رامسفيلد بـ«النعمة المتخفية» واستشهاد الرئيس الحريري ورفاقه, ومن قضى بعدهم, لمنع ارتداد النار اولاً الى صدورهم, وصدر وطنهم ومقاومته البطلة, وثانياً للعمل بجد واخلاص لتصحيح العلاقات بين سوريا ولبنان كي تقوم على أسس ثابتة ونقية من كل شوائب المرحلة الماضية, بعد ان نجح البلدان الى حد بعيد بالحد من تأثيرات تسونامي الفوضى الاميركية؟!

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)