أخطأ من اعتقد أن معركة لبنان انتهت بخروج الجيش السوري منه. الصحيح أن المعركة حول لبنان وفيه مستمرة، وأن مرحلة جديدة منها بدأت مع الخروج العسكري، للسببين التاليين:

إن إقامة علاقة من نمط جديد بين البلدين تتطلب تعبئة قدرات تتخطى المجال العسكري إلى المجالات الأخرى جميعها، ويستطيع البلدان استخدامها بحرية. وقد تحدث الرئيس الأسد عن العلاقات الجديدة باعتبارها استمراراً لوجود سوريا في لبنان، وقال إنها ستعززه ولن تضعفه، لكن شيئاً لم يعمل في هذا الاتجاه.

إن دخول القوة الدولية العظمى أمريكا والكبرى فرنسا، على الخط وسع دائرة الصراع على لبنان وفيه، خاصة أن النظام السوري يعتبره خاصرة رخوة يمكن أن تأتيه منها أخطار عظيمة، وأنه يتصرف وكأن هذه القوى توطنت فيه، وأن عليه مواجهتها بما لدى دمشق من قدرات ذاتية وأوراق لبنانية يجسدها أساساً حزب الله. وقد عبرت السياسة السورية عن موقفها من خلال تصريح رئيس الوزراء ناجي العطري، الذي اعتبر سلاح حزب الله مسألة أمن قومي سوري، وألمح إلى أن سوريا لن تسمح لأحد بنزعه، سواء كان ذلك تطبيقا للقرار 1559 أم استجابة لمتطلبات داخلية لبنانية تتوافق عليها السلطة الجديدة والأحزاب والطوائف في ما يجب أن يعتبر مرحلة جديدة من حياة لبنان السياسية!.

هل هناك حقا مرحلة جديدة في حياة لبنان السياسية؟. نعم، هناك مرحلة كهذه بدأت مع القرار ،1559 الذي عبر عن رغبة دولية في نقل علاقات لبنان من إطارها الإقليمي، الذي كان محل توافق دولي طرفاه أمريكا وسوريا، إلى إطار دولي، أمريكي فرنسي، يضع حداً للتوافق السابق، ويعين علاقات لبنان وطبيعة حكمه ونمط تعامله مع جيرانه، وخاصة منهم سوريا و”إسرائيل”، بطريقة تعزز تحوله وتحول المنطقة العربية نحو واقع داخلي جديد، يأخذها إلى نظام مختلف تسود علاقات مختلفة بين أجزائه، وبينها وبين العالم الكبير. يعني هذا أن علاقات لبنان مع سوريا ستتعين من الانسحاب العسكري فصاعداً بمصالح واستراتيجيات قوى عظمى وكبرى تعلن عزمها على تغيير النظام الإقليمي، وترشح النظام السوري لأن يكون بين أوائل من سيجرى تغييره من نظم عربية. ويعني أن لبنان سيتحول إلى مقر وممر لنفوذ أجنبي معاد للنظام السوري، الذي أخرج منه، ومن غير الجائز أن ينجح في تحويل حدوده معه إلى حدود عازلة، ولا بد من إجباره على الرجوع إليه بطريقة تتسبب في ارتطامه ليس فقط بالحكومة اللبنانية، بل كذلك بالقوى العظمى والكبرى، التي تريد القيام بنقلة في المعركة مع دمشق، على أن لا تجد أمامها أي خيار غير بديلين كلاهما صعب:

صياغة علاقاتها مع لبنان بدلالة علاقاته مع القوى الخارجية و”إسرائيل”، الأمر الذي يعني انخراطها في تنفيذ بقية القرار ،1559 وتحمل المسؤولية الأساسية عن نزع سلاح المخيمات الفلسطينية، وتقويض حزب الله ووضع حد لوجوده كحزب مسلح يلعب دورا في الصراعات والتوازنات الإقليمية واللبنانية. المشكلة هنا أنه لا تلوح في الأفق بوادر تدل على وجود رغبة أمريكية فرنسية في عقد صفقة مع النظام السوري تعطيه دورا لبنانيا مقابل قيامه باستكمال تنفيذ قرار سيضعفه إلى درجة خطيرة، وسيفتح أبواب دمشق أمام تدخلات خارجية وتصدعات داخلية محتملة. أو إقامة علاقات مع لبنان كدولة مستقلة أرضيتها التاريخ والثقافة المشتركة والمصالح الجامعة... الخ، تتسم بالندية والتكافؤ، وتستهدف تعزيز دوره العربي وتقوية وتوحيد قواه المناهضة للخارج، مع ما سيعنيه ذلك من تبدل في دور دمشق اللبناني، يجعل خروجها العسكري منه خاتمة سياسة قامت على احتوائه أو التحكم فيه أو ابتزازه أو إخضاعه أو الإفادة منه كأخ ضعيف... الخ، وبداية سياسة جديدة مفتوحة على علاقات مفيدة ومطلوبة. هذا الخيار دونه صعوبات يصعب تجاوزها، أهمها أن أمريكا وفرنسا لن تقبلا به، وأن نجاحه سيستفز قوى لبنانية كثيرة وسيفتح الباب أمام تدخل “إسرائيلي” واسع في الشأنين اللبناني والسوري.

ما الحل في زمن ما بعد الحل؟.

كان الحل الأخير احتمالا ممكنا إلى ما قبل أشهر قليلة. لكن الانسحاب السوري جعله طوبى صعبة المنال، بينما حول الدخول الخارجي على خط علاقات سوريا اللبنانية إلى ساحة من ساحات صراع دولي متفجر، وإلى جزء من استراتيجيات الخارج تجاه دمشق، لن يكون للسلطة اللبنانية بالضرورة أي نفوذ مقرر عليها. خرج النظام السوري من لبنان وهو مؤمن بإمكانية فتح صفحة جديدة معه، وهو يكتشف اليوم طبيعة المرحلة الجديدة، التي تذهب إليها المنطقة، وما تفرضه عليه من خيارات، ويتأكد يوميا من أن علاقاته مع لبنان ما تزال محكومة بالقرار ،1559 أي بإرادة الخارج. في هذا الوضع المعقد، لا تجد دمشق ما تفعله غير اتهام حكومة لبنان بالتبعية لأعدائها والرضوخ لهم، متجاهلة أن موقف بيروت ليس أقل صعوبة من موقفها، بالنظر إلى أن البيئة الدولية التي بدأت تتوطن فيه تضعه أمام خيارات صعبة، وتستغل ما لديه من مشكلات كثيرة ومعقدة يتخطى حلها قدراته الذاتية. ومن أسف أن دمشق لا تعينه، بل فرضت عليه حصارا يدفع به إلى الجانب الآخر، مع أن معركتها ليست معه، بل مع القوى الخارجية التي اقتحمته. ألم تكن زيارة السيدة رايس لبيروت نوعا من الاقتحام؟ وشرعت تحوله إلى ميدان صراع شامل ضدها.

يقصي هذا الواقع، الذي يتخلق بسرعة، خيار العلاقة المتكافئة بين دولتين مستقلتين، التي تخدم أهدافهما ومصالحهما وتقيم بينهما حال تفاهم وتعاون كتلك التي يجب أن تقوم بين أخوة متآزرين. فهل يقبل النظام السوري البديل الثاني، الذي يعني استكمال تطبيق القرار 1559 بصفته بديلا وحيدا، أم يذهب إلى معركة كسر عظم مع أمريكا وفرنسا، من المرجح أن يجد نفسه مجبرا على خوضها في الأشهر المقبلة، التي ستبدأ بنشر تقرير ميليس، وستشهد بتطورات يصعب تصورها اليوم، لكنها ستكون تفاصيل معركة حاسمة بالنسبة إلى أطرافها جميعا.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)