روسيا لاتتعامل مع العلاقات الدولية مثلما تتعامل معها قوى حلف شمال الأطلسي التي تولي أفضلية كبرى لتغيير النظم الحاكمة من خلال عمليات سرية، وسحق هياكل الدول التي تقاومها بشن الحرب عليها، وبينما يكيلون المديح على حقوق الإنسان التي يحترمونها في بلدانهم، لايتورعون عن انتهاكها في أي مكان آخر من العالم، في سعي منهم لبناء عالم يحترم قواعدهم فقط.

وعلى النقيض من ذلك، تنطلق موسكو في علاقاتها الدولية من معرفة عميقة بثقافة وتاريخ شركائها. وتسعى إلى ترتيب شؤون العالم حول قواعد يتم وضعها بشكل مشترك وتحظى بقبول الجميع على أساس القانون الدولي.
تؤمن موسكو بالدبلوماسية قبل القوة. وغالباً ما نراها تنخرط في مفاوضات طويلة، ليس الهدف منها تقاسم المصالح من خلال إبرام المعاهدات، بل إنضاج وجهات نظر مختلف الأطراف.

هذا ما رأيناه في مناقشات سوتشي والمحادثات على نسق أستانا.

انتهت محادثات سوتشي بإغلاق الحوار بين الحكومة السورية والمعارضة، وأفضت إلى إجراء إصلاح دستوري سيتم إقراره برعاية الأمم المتحدة. لكن هذه المرحلة الأخيرة منه غير ممكنة في الوقت الحالي بسبب استمرار العدوان الغربي على شمال البلاد

أما محادثات أستانا فلم تسفر سوى عن نصوص شكلية. لكن الموقف التركي تطور بعدها بشكل كبير. فأنقرة لم تعد تُعرف نفسها بمرجعية دينية، بل قومية، وإن كانت ماتزال تدعم الإخوان المسلمين بدافع الوفاء لهم، لكنها لم تعد راغبة بمواءمة سياساتها مع أيديولوجيتهم. وصارت تتقبل التتريك أكثر من الأسلمة، وتواصل قتال المرتزقة الأكراد التابعين للعم سام، وأبرمت إتفاقاً مع عبد الله أوجلان.

وعلى الأرض، لم يعد الجيش التركي يدافع عن الجهاديين في محافظة إدلب، وصار بإمكان الجيش العربي السوري تحرير هذه المنطقة.
تستعد أنقرة للقضاء على المرتزقة الأكراد من الجنسية التركية الذين احتلوا شمال سوريا بأمر من البنتاغون، مع السماح لدمشق بحماية الأكراد المتمتعين بالجنسية السورية الذين ضللوا أنفسهم في هذه المغامرة، بشرط أن يسمحوا للسكان العرب والآشوريين بالعودة إلى ديارهم، وأن يتخلوا عن أوهام الانفصال.
تقبلت تركيا أيضاً مسالة خسارة موقعها في السودان، على الرغم من قاعدتها العسكرية في سواكين ، والتخلي عن السودان للمملكة العربية السعودية.

وهكذا أغلقت تركيا، بفضل دهاء الدبلوماسية الروسية، أوهام استعادة الخلافة العثمانية، التي سعت إليها من خلال نهب حلب، ودعم داعش، وسرقة النفط القبرصي، ومحاصرة المملكة العربية السعودية عسكرياً، وأصبحت في المقابل تؤكد نفسها كقوة حديثة تحاول احترام القانون الدولي مع الاحتفاظ ببعض الالتزامات القديمة التي تتأسف عليها.
من المؤكد أن تحرير كامل سورية لايمكن أن يتحقق إلا بالسلاح، ومن المؤكد أيضاً أن تركيا لم تعد تقف عائقاً دون ذلك الهدف.

التطور نفسه نراه الآن في إيران. فبعد مرور ست سنوات على الانعطاف الديني عبر انتخاب الشيخ حسن روحاني، يعيد البلد النظر تدريجياً بهويته كإيراني وليس كبلد شيعي. ولم تعد إيران تسعى إلى استخدام الأقليات الشيعية في كل من المملكة العربية السعودية، والبحرين، والعراق، ولبنان، وسورية، واليمن، بل لحمايتهم.
لقد لوت إيران عنق الاستعمار البريطاني في الخليج وهاهي تقاوم الإملاءات الأمريكية.

إنها تطورات هشة، بكل تأكيد، لكنها عميقة للغاية، لأنها تجمع تدريجياً بين شعوب المنطقة حول قواعد مشتركة، في مقدمتها القانون الدولي، إرث القيصر نيكولا الثاني.

ترجمة
سعيد هلال الشريفي
مصادر
سوريا

titre documents joints


Al-Watan #3211
(PDF - 196.3 كيليبايت)