تكتسب مهمة رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس في دمشق السبت المقبل(10 ايلول) اهمية خاصة في محاولة معرفة من اغتال الرئيس رفيق الحريري، كما في وضع سوريا للمرة الاولى امام مساءلة دولية حتى قبل التحقق من دور محتمل لها في الاغتيال.

اذ بعد قانون محاسبة سوريا وعقوباته عام 2003، ثم قرار مجلس الامن 1559 عام 2004، تأتي زيارة محقق دولي بصلاحيات واسعة النطاق لدمشق لتنقل المواجهة الاميركية – السورية ثم الدولية – السورية الى داخل الاراضي السورية وتضع نظام الرئيس بشار الاسد على المحك.

ففي اقل من سنتين يواجه الرئيس السوري تحدياً ثالثاً بعدما اعتمد طريقتين مختلفين في مقاربته تحديي 2003 و2004: تجاهله العقوبات الاقتصادية الاميركية لعدم فاعليتها، واستجابته طلب الامم المتحدة الانسحاب الشامل لجيشه واستخباراته العسكرية من لبنان. الا انه اضحى امام لجنة التحقيق الدولية في مأزق "تبرئة" سوريا من شكوك في دور "مفترض" لها في اغتيال الرئيس السابق للحكومة. وبذلك فان انتقال ميليس الى دمشق يعكس اكثر من اشارة ذات مغزى:

اولى تلك الاشارات، استناداً الى معلومات واسعة الاطلاع، انه يذهب الى دمشق وفي جعبته قرائن عن دور سوري في الاغتيال. وخلافاً لما كان قاله في مؤتمره الصحافي الخميس الفائت (الاول من ايلول) ان لا مشتبه فيه سورياً، فانه في زيارته للعاصمة السورية يرمي الى اكثر من اجراء تقاطع للمعلومات والقرائن التي حصل عليها من تحقيقاته في بيروت. وهو يسعى في واقع الامر الى توثيقها.

وثانيتها ان اصرار ميليس على اجراء استجواباته في دمشق ينطوي على اكثر من هدف، ليس اقلها انه لن يكتفي باستجواب المسؤولين الامنيين السوريين الذين عملوا في لبنان في المرحلة التي سبقت اغتيال الحريري وتلتها، وانما يأمل في "الايقاع" باسماء مسؤولين سوريين امنيين وسياسيين متفاوتي الموقع والدور في النظام السوري، الامر الذي يتعذر عليه اجراؤه خارج دمشق، خصوصاً وان قراراً في حجم اغتيال الحريري هو سياسي أولاً وموقع المسؤولين عنه، تخطيطاً على الاقل، يتجاوز موقع ضباط كان دورهم في لبنان اجرائياً اكثر منه تقريرياً.

ورغم ان المسؤولين المعلنين المرشحين للاستجواب هم ثلاثة، فان ثمة لائحة تحدثت عن اربعة مسؤولين آخرين يتقدمون الضباط الثلاثة رتبة في النظام، وبينهم، على ما يتردد، قريبون من الرئيس السوري، كما ان ثمة مَن يذكر اسماء مسؤولين انسباء له، الامر الذي يفتح باب التكهن واسعاً في الجانب غير المعلن من مهمة ميليس في دمشق، وهو الخوض عميقاً في تركيبة النظام السوري من باب مساْلة قضائية دولية تعرضه للإدانة، وربما لأكثر من ذلك.

وتبعاً لاستنتاجات مسؤولين لبنانيين يتابعون عن كثب تحقيقات اللجنة الدولية، فان ثمة "شخصية سورية كبيرة ومهمة" من داخل النظام السوري كان لها دور بارز في ادارة عملية اغتيال الحريري، وهي وحدها القادرة على ان تجمع الى طاولة واحدة القادة الامنيين السابقين الاربعة الذين لا يلتقون الا على تبادل الكراهية في ما بينهم. والاحرى ان بينهم ايضاً من يجّنبه ذكاؤه التورط في اغتيال سياسي رهيب كما ان بينهم مَن يحول ضعفه دون ائتمانه على دور وسرّ خطيرين يقودان الى اغتيال الحريري. ناهيك بالغموض الذي يحوط بمسؤولية كل منهم حيال ما اتهم به.

والواقع ان ميليس اتعظ من سلفه في التحقيق في الاغتيال وهو رئيس بعثة تقصي الحقائق بيتر فيتزجيرالد الذي نصح له عندما اجتمعا غداة تعيين ميليس رئيساً للجنة التحقيق الدولية، بالا يثق بجهتين في لبنان: الاجهزة الامنية اللبنانية والقضاء اللبناني. وعملاً بهذه النصيحة حجب ميليس عن الاخير الكثير من المعلومات التي يملكها في ملف تحقيقاته، وخصوصاً تلك المتصلة بدور سوري ما التي يفتقر اليها القضاء اللبناني في تبريره التوقيف الدائم للقادة الامنيين اللبنانيين.

يشير ذلك، بحسب المسؤولين اللبنانيين المعنيين، الى ان الحديث عن الشقة في حيّ معوض في الضاحية الجنوبية والسيارة التي ذُكِر انها استخدمت في الاعداد للاغتيال هي ادلة واقعة ولكنها غير قاطعة في انتظار الفحوص الجينية التي أخِذت من الضباط الاربعة لمطابقتها مع البصمات التي رُفِعت عن الشقة والسيارة. وحتى الآن لم تصل الى بيروت نتائج هذه الفحوص.

وثالثتها ان جانباً آخر غير معلن في مسار تحقيقات القاضي الالماني، ولاسباب وجدها هو مرتبطة بسرية التحقيق، توسّع في مهمته سواء مع القادة الامنيين الاربعة او مع ضباط لبنانيين من رتب متفاوتة الاهمية، بمن فيهم ضباط من رتب صغيرة استجوبهم هو او فريق عمله بعيداً من الاضواء، وحرصوا على طرح اسئلة عليهم بعضها يتصل بمهمات كان رؤساؤهم يكلفونهم اياها لدى ضباط سوريين. كذلك طرحت عليهم اسئلة لا صلة لها باغتيال الرئيس السابق للحكومة، بل كانت اقرب الى اكتشاف آلة العلاقة الامنية اللبنانية – السورية.

وقد بدا ذلك أهم ما ترمي اليه تحقيقات ميليس في موازاة كشف حقيقة اغتيال الحريري: الولوج الى آلة الاستخبارات العسكرية السورية في لبنان في المرحلة السابقة وطريقة عملها ورجالها وعلاقاتها السياسية بما يعكس، بالنسبة الى رئيس لجنة التحقيق الدولية، اكتشاف العصا السورية التي ادارت لسنوات طويلة السياسة اللبنانية. لذلك فان لمهمته في دمشق جانباً مكملاً في اكتشاف هذه الآلة، الامر الذي حداه في مؤتمره الصحافي على عدم استبعاد الحوافز السياسية للاغتيال، الا انه اعتبر يومذاك انها في حاجة الى "تحديد". وهو في اي حال، كما من قبله فيتزجيرالد، لا يسقطها من حساب استجواباته ولا يقلل من فاعليتها في قرار الاغتيال.

مصادر
النهار (لبنان)