كثر عدد الجلادين للفكر القوميِّ العربيّ، وأصبحت السهام الموجَّهة لهذا الفكر تنطلق من كلّ اتّجاه، وكأنَّ العروبة هي المسؤولة عن كلّ الرذائل العربيَّة، فحقَّ عليها الرَّجم حتى الموت! الانتماء القومي، بنظر البعض، أشبه بثوبٍ يُلبس حسب المواسم، والآن موسم كلِّ شيء ـ بما في ذلك إسرائيل ـ إلا موسم القوميَّة العربيَّة!.

فَلِمَ يعيش الفكر القوميّ العربيّ هذه المحنة، بل النكسة، في حين كان من المفترض حصول العكس مع مطلع التسعينات من القرن الماضي.. عندما بدأ الفكر الأممي المادي يترنَّح ويتساقط في الشرق السوفييتي لتخرج من بين أنقاضه قوميات عريقة عجز الفكر الشيوعي عن طمسها، رغم محاولات وأدها أكثر من مرَّةٍ وفي أكثر من مكان؟!

أيضاً، كان مطلع التسعينات تتويجاً لمراحل الوحدة الأوروبية التي جمعت في ظلالها أكثر من قوميةٍ ولغةٍ وتراثٍ ودين، بل تواريخ وذكريات حافلة بالصِّراعات والدَّم والحروب، لكن المصلحة الأوروبية المشتركة في الوحدة تغلَّبت على كلِّ هذه التباينات والفروقات... ما تُراها كانت جريمة الفكر القومي العربي حتى يستحقَّ وحده، دون سائر التيَّارات القومية الأخرى في العالم، هذا العزل وذاك الرَّجم والعقاب؟

لقد كان الخيار القومي ـ ولا يزال ـ يعني القناعة بأنَّ العرب أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة لكنَّها تشكِّل فيما بينها امتداداً جغرافياً وحضارياً واحداً وتتكامل فيها الموارد والطاقات.إنَّ المتضرّرين من هذا الخيار هم حتماً من غير العرب. وقد سعى هؤلاء في الماضي، وما زال سعيهم وأمثالهم قائماً وظاهراً بالحاضر،

لمنع إتحاد الأمَّة العربيَّة حفاظاً على مصالحهم في المنطقة، وأيضاً حفاظاً على مستقبل استنزافهم لخيراتها ومواردها وطاقاتها المادية والبشرية.فمن المفهوم أن يحارب غير العرب (على المستويين الإقليمي والدولي) فكرة القومية العربيَّة، لكن لِمَ نشهد إطلاق السِّهام على هذه الفكرة من بعض أبناء العروبة نفسها؟

هذه محاولة للإجابة:

إنَّ أزمة الفكر القوميِّ العربيّ أساسها في أنَّ هذا الفكر لم يكن فكراً قوميّاً عربيّاً فقط، وأنَّه لا وجود لمفهومٍ واحدٍ له .. فما كان له مفهوم واحد لدى كلّ دعاته، وما كان واضحاً لدى المعنيّين به (أي عموم العرب) الفرق بين الدعوة القوميّة وبين الدّعاة لها، فاختلط سوء بعض الدّعاة وضررهم مع حسنات هذه الدَّعوة وفوائدها.

بعض الفكر القومي العربي امتزج بأفكار ماديّة، غربيّة وشرقيّة، وكان ذلك وحده كفيلاً بتخريب عقول هؤلاء الدعاة وبترسيخ التناقض مع مضمون الدَّعوة نفسها، فأصبح الفكر القومي عند البعض يقوم على قاعدة الماركسيّة ـ اللينينيّة، بينما مزج البعض الآخر بين الفكر القومي العربي والمفاهيم الفاشية والعنصريَّة، فنتج عن ذلك طروحات وممارسات أساءت للأمَّة العربيَّة كلّها.

كانت الدعوة للفكر القومي لا تصدر عن مرجعيةٍ عربيةٍ واحدة حتى تتحدَّد المفاهيم والمنطلقات والأساليب والغايات، بل كان بعض القوى القومية يطرح شعار الوحدة وهو يحارب في الوقت نفسه القيادة الجماهيرية لهذه الدعوة، ويشارك في التآمر على أول تجربةٍ وحدويّةٍ في العصر الحديث (وحدة مصر وسوريا عام 1958)، ثمَّ باسم الوحدة، وباسم الأحزاب القوميّة،

جرى اعتقال وذبح وتشريد الآلاف من القوميين العرب في أكثر من بلدٍ عربي حكم فيه أدعياء للقوميّة لا صلة لهم بوصف الدُّعاة الحقيقيّين لها، وكما صحَّ القول المعروف « كم من الجرائم ترتكب باسمك أيَّتها الحرَّية !»، فإنَّ الكثير من الجرائم العربيَّة تمَّ ارتكابها باسم الوحدة العربيَّة. لكن، هل أدَّت الجرائم باسم الحرية الى التخلّي عن هذا الهدف النبيل والمطلب المشروع لكلّ فردٍ وكلّ جماعةٍ وأمَّة..؟!

وحتى لا يكون هذا الكلام مجرَّد تبريراتٍ لأزمة الفكر القوميِّ العربيّ، فإنَّنا نقول:

إنَّ الأطروحة القومية طغى عليها، في الخمسينات وفي الستينات من القرن العشرين، الطابع التحرّري العام ضدَّ النفوذ الأجنبي، وكانت هذه سِمة إيجابية طبعاً عزَّزت من جماهيرية الطرح القومي بين المحيط والخليج. ثم دخل البعد الإجتماعي على الأطروحة القومية ليصبح الحديث عن الانتماء القومي مرادفاً للاشتراكية، علماً أنّ الأول حالة كيانية مستمرَّة بغضِّ النَّظر عن النظام السياسي والإجتماعي المطلوب في أيِّة مرحلةٍ أو أيّ ظرف.

وفي المرحلتين، التحرَرية والاجتماعية، كانت الأطروحة القومية ضعيفة الاقتران أو الوضوح في العلاقة مع مسائل ثلاث: الإسلام، الديمقراطية، والوطنية. فقد غابت هذه المسائل عموماً عن الأطروحة القومية، أو إنّها على الأقل ظهرت بشكلٍ أضعف بكثير من الجانبين التحرري والاجتماعي. فالتيَّار القومي ساهم في تحرير الجزائر مثلا من الاستعمار الفرنسي، لكنَّه لم يستطع إلزام قادة معركة التحرير بانتهاج الأسلوب الديمقراطي في الحكم أو بوضوح العلاقة مع الإسلام.

وساهم التيَّار القومي أيضاً في الدفاع عن عروبة لبنان عام 1958، لكنه لم يعكس طرحاً متكاملاً بين العروبة والوطنية اللبنانية، حيث كان دعاة العروبة في لبنان يرفضون مجرَّد القبول بالانتماء للوطن اللبناني وينظرون الى الوطنية كنقيضٍ للعروبة، كما كانت العروبة تشكِّل هاجساً خطيراً عند دعاة «اللبنانيَّة».

وكان التركيز الشديد على الربط بين الوحدة وبين الاشتراكية كفيلا بجعل كافَّة المتضرّرين من قرارات التأميم والتطبيق الاشتراكي (في مصر وسوريا وغيرهما) من أعداء الوحدة عوضاً عن النظَّر إلى أنَّ هذه الوحدة ستفتح أسواقاً جديدة لمصالحهم وتجارتهم.

من ناحيةٍ ثانية، فإنَّ الاشتركية كانت دعوةً فكرية غير متَّفقٍ على مضمونها عربياً، حيث وضعها البعض في خانة الفكر الماركسي وتجربته الاقتصادية، خاصة في ظلِّ العلاقات القوية التي كانت سائدة بين المعسكر الشيوعي وقادة التيَّار القومي. وقد أدَّى هذا الأمر الى ردَّة فعلٍ فكريّة وسياسيّة ضدَّ الفكر القومي من قبل كافَّة الذين يتناقض فكرهم أو سياستهم مع الفكر الماركسي، ومِن ضمنهم بعض الجماعات الإسلامية.

إنَّ الأمَّة العربيَّة هي الأمَّة الوحيدة، بين سائر أمم العالم الإسلامي، التي لا يصحّ التناقض فيها ما بين الإسلام والانتماء للعروبة. فالأمَّة العربيَّة كانت قبل بدء الدعوة الإسلامية مجرد قبائل محلية على أرض الجزيرة العربية، وبالتالي هي الأمَّة الوحيدة التي أوجدها الإسلام وما كان لها وجودٌ من قبله، وهي بهذا تتميز عن بقيَّة الأمم الأخرى، ولو كانت أمماً تدين بالإسلام مثلها. وبينما الإسلام هو دين وحضارة للعرب المسلمين، فإنَّه حضارة وتاريخ وتراث للعرب غير المسلمين.

فلو كان للفكر القومي بشكلٍ عام أن يتناقض مع الإسلام في أيَّة أمَّةٍ بالعالم، فإنَّ ذلك غير ممكنٍ له في الأمَّة العربيَّة. فالعرب كانوا هم حملة رسالة الإسلام، والعربيَّة هي لغة قرآنه الكريم وحاوية لمعظم تراثه الفكري، بل إنَّ في توحّد العرب قوَّةً ودعماً للعالم الإسلامي كله، ورغم ذلك، حدث ويحدث التناقض بين دعاة العروبة ودعاة الإسلام، بينما كان من المفترَض أن يشتركوا سوياً في المنطقة العربيَّة بالدعوة للعروبة الحضارية معاً.

وعلى صعيد العلاقة بين العروبة والوطنية، فإنَّ الهويَّة الوطنية لا يجب أن تتعارض مع الدعوة للانتماء القومي، بل إنَّ تعزيزها (اي الهويَّة الوطنية) يساهم في إذابة الانقسامات القائمة داخل البلاد العربيَّة على أساس طائفيٍّ أو قبليٍّ أو عرقيّ، حيث تصبح الوحدة الوطنية داخل كلِّ وطنٍ عربي هي أساس الدعوة للوحدة العربيَّة، وحيث يكون الولاء للوطن الواحد أرفع درجةً من الولاء للطائفة أو القبيلة أو العشيرة.

إنَّ دولة «الولايات المتحدة العربيَّة» يجب أن تكون حصيلة تكامل «الوطنيات» العربيَّة وليست نتيجة سيطرة إقليمية على إقليميةٍ أخرى.. وباسم الوحدة العربيَّة! إنَّ الإجماع الشعبي داخل كلِّ بلدٍ عربي على دعوة الوحدة هو الطريق لبناء دولة الإتحاد العربي، وأيّ أسلوبٍ آخر هو هدمٌ لفكرة الإتحاد وتعميقٌ لشرخ الانقسام بين العرب.

إنَّ غياب الديمقراطية في المنطقة العربيَّة يجعل استباحة حقوق الأفراد والأوطان من الأمور القابلة للتكرار ـ وتحت شعاراتٍ مختلفة ـ باسم العروبة حيناً وباسم الدين أحياناً أخرى، كما كان يحصل في الماضي القريب باسم التحرّر أو التقدم!! إنَّ الأطروحة القومية العربيَّة لا يمكن لها أن تستمرَّ

وأن تستقطب من حولها ما لم تقف على ركائز أساسيةٍ ثلاث: البُعد الديني الحضاري، والديمقراطية، والوطنية. وبغياب أيٍّ من هذه الركائز، ستبقى الأطروحة القومية عرجاء وعاجزةً عن النّهوض بالأمَّة العربيَّة والارتفاع بها فوق ما فيها من احتلال وتجزئةٍ وتخلّفٍ واستبداد.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)