يبدو ان صعوبات المرحلة الانتقالية الراهنة التي يمر بها لبنان على كثرتها وتعقيداتها وتشعبها لم تؤثر في اطمئنان عدد من القادة السياسيين الى مستقبل البلاد ونجاحها في العبور من وصاية سورية رسمية مباشرة استمرت قرابة 16 سنة الى استقلال ثان يحميه ابناؤها او معظمهم ويرعاه المجتمع الدولي ومعظم الاشقاء العرب. والدافع الاساسي "لصلابة" اطمئنان هؤلاء وعمقه هو اقتناعهم بأن المجتمع المذكور هو الذي باشر انقاذ لبنان منذ التمديد القسري لرئيس الجمهورية العماد اميل لحود قبل نحو سنة وهو الذي قرر العمل مباشرة لتمكين شعبه من استعادة استقلاله بعد سلسلة التطورات المأسوية والخطيرة التي اعقبت التمديد والتي كان اشدها هولا وتأثيرا اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط الماضي. وعندما يتخذ المجتمع الدولي قرارا من هذا النوع فانه ينفذه. وابرز دليل على ذلك ما حصل عام 1989 عندما قرر هذا المجتمع ولاعتبارات متنوعة ولمصالح متباينة واحيانا متناقضة انهاء الحروب المتنوعة في لبنان. وعندما نفذه برعاية مباشرة لتحرك عربي اثمر اجتماعا للنواب اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية ومن ثم اتفاقا لهم على ميثاق وطني جديد حُوّل دستورا في مرحلة لاحقة.

هل الارتياح المشار اليه اعلاه لعدد من القادة السياسيين في محله؟

انه كذلك من الناحية المبدئية. فاتفاق الطائف (1989) - الذي كان ترجمة لقرار دولي ترجمه العرب الفاعلون في حينه وفي مقدمهم المملكة العربية السعودية ونفذته سوريا الموجودة عسكريا في لبنان بقرار عربي منذ عام 1976 - انهى الحرب في لبنان واشاع مناخا من الاستقرار السياسي والامني وانْ هشاً وفتح الابواب على مستقبل واعد. علما انه لم يقفل ابواب الماضي البغيض. الا ان سلوك هذا الاتفاق طريق التنفيذ الفعلي وتهيئة الظروف اللبنانية الداخلية لتنفيذه لم يكونا سهلين على الاطلاق. ذلك ان القرار بالسعي اليه والاجراءات الاخرى التي اتخذت للتوصل اليه تسببا بجولة من الحروب كانت الاقسى التي شهدها اللبنانيون وخصوصا المقيمون منهم في "المناطق الشرقية" ذات الغالبية المسيحية. وكادت هذه الحروب ان تهدد اتفاق الطائف بل القرار الدولي الذي ادى اليه لولا قرار دولي آخر بتحرير الكويت من غزو عراق صدام حسين عام 1990. وافسح هذا القرار الآخر لسوريا المكلفة تنفيذ الاتفاق في المجال لازالة "التمرد" عليه وعلى المجتمع الدولي في ذلك الوقت بالوسائل العسكرية.

انطلاقا من ذلك كله يمكن القول ومن دون مبالغة ان طريق تطبيق القرار الدولي الجديد لن يكون بالسهولة التي يتصورها كثيرون من السياسيين ومن المواطنين اللبنانيين. والاسباب كثيرة. منها ان المرحلة الحالية مختلفة عن مرحلة عامي 89 – 90. يومها كان هناك اجماع اسلامي سياسي وشعبي وغالبية مسيحية سياسية على ضرورة انهاء الحرب. اما اليوم فان الاوضاع مختلفة فالطوائف والمذاهب اللبنانية الاسلامية والمسيحية ليست كلها في موقع واحد او في موقف واحد حيال كل القضايا الخلافية المطروحة. وحتى التي منها تشترك في الموقع او الموقف لا تزال التساؤلات تساورها والهواجس والمخاوف تلاحقها من لبنان جديد غير متوازن او "طابش" في اتجاه او آخر تراودها. ومن الاسباب ايضا استمرار التأثير الواسع للعوامل الاقليمية التي كانت فاعلة في لبنان زمن "الوصاية" رغم انتهائها رسميا بخروج سوريا عسكريا من لبنان في نيسان الماضي. وابرز هذه العوامل اثنان السوري والايراني. وفي ظل الصراع بين اصحاب هذين العاملين من جهة وبين اصحاب القرار الدولي بانقاذ لبنان والحليف الاسرائيلي لمعظمهم من جهة اخرى، وكذلك في ظل الصراع الداخلي الذي تمارسه الطوائف والمذاهب وان على نحو ضمني رغم انه مكشوف للناس والذي يتم الاستناد فيه الى كل هؤلاء. في ظل كل ذلك لا يمكن القول ان الاوضاع استقرت في لبنان. يمكن القول ان سوريا لن تعود الى لبنان، ويمكن القول ان القرارات الدولية كلها ستنفذ في الاوقات المناسبة، ويمكن القول ان لبنان سيزدهر من جديد ويعمه الامن والاستقرار. لكن الوصول الى هذه المرحلة قد يكون ربما مستحيلا على البارد. فالمرحلة انتقالية. والجهات الخاسرة لم تستسلم ولا تزال تواجه مباشرة وبحلفاء لها في لبنان معلنين او مستترين فضلا عن حلفائها الاقليميين الذين يخوضون مواجهة مماثلة ولكن ربما لاسباب اخرى. كما ان الجهات الرابحة من خارجية وداخلية لن تقبل المساومات والصفقات وهي مستمرة في العمل لتحقيق "الانتصار" التام. وهي قد تنجح في النهاية كما نجح المجتمع الدولي عام 1989 في "فرض" الطائف وعام 1990 في ازالة المتمردين عليه او الرافضين له. لكن المهم ألا يكون ذلك على حساب دماء الناس ومستقبل البلاد.

في اختصار يبدو للمتابعين ان "غيمة" سوداء بل بالغة السواد تقترب من لبنان. وبعد هذا النوع من الغيوم تُتوقع العواصف وربما الاعاصير. لكنهم يقولون ان بعد الغيم تشرق الشمس ويعود الصحو. وهذا صحيح. لكن ما يأمل فيه اللبنانيون هو ألا يكون صحو ما بعد العاصفة او الاعصار مماثلا لصحو ما بعد اعصار كاترينا في اميركا الذي اظهر الخراب والدمار الكبيرين اللذين تسبب بهما. وما يأملون فيه ايضا هو ان تكون هذه الغيمة السوداء، اذا وصلت الى سماء لبنان لا قدر الله، الاخيرة في سلسلة الغيوم المن هذا النوع بحيث لا تتبعها اخرى اشد سوادا مثلما تبعت "ريتا" "كاترينا" وفي اميركا ايضا.

مصادر
النهار (لبنان)