ليس سهلاً على أيّ لبناني أن يضع عواطفه جانباً وأن يتحدث عن غازي كنعان بحد أدنى من الموضوعية. فقد لعب الرجل طوال عشرين عاماً دور المفوض السامي الآمر والناهي في شأن كل ما له علاقة بلبنان، إلى حد أنه يمكن القول إن وزير الداخلية السوري الذي أذيع رسمياً أنه "انتحر" ربما ذهب ضحية الفشل الذي لحق بمشروعه اللبناني. إنه فشل جعله يصل إلى ما يمكن اعتباره طريقاً مسدوداً في كل الاتجاهات لم يترك أمامه سوى خيار الانتحار.. أو الدخول في مواجهة مع خصومه من داخل النظام تقود بطريقة أو بأخرى إلى الانتحار.

في النهاية تعددت الأسباب والنتيجة واحدة. إنها تتمثل في غياب اللواء غازي كنعان عن مسرح الأحداث اللبنانية والسورية قبل أيام قليلة من صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس. وهذا يعني في طبيعة الحال وبغض النظر عما يروّج له أهل النظام في سوريا وأدواتهم اللبنانيون، أن لـ"انتحار" غازي كنعان علاقة ما باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

يمثل ما حلّ بوزير الداخلية السوري الذي كان بين العامين 1982 و2002 صاحب الكلمة الفصل في لبنان، ذروة الفشل السوري في البلد الجار الذي سعت دمشق إلى تحويله إلى مجرد "ساحة" لها ليس مسموحاً للآخرين بما في ذلك الإخوة العرب، الدخول إليها من دون إذن دمشق. ويكمن النجاح الكبير لغازي كنعان في أنه تمكن من تدجين لبنان واللبنانيين، أو لنقل معظم اللبنانيين، وذلك بعدما أمّن للجيش السوري العودة إلى بيروت في العام 1986 من طريق صدامات مفتعلة بين الميليشيات اللبنانية التي كانت تسيطر على بيروت الغربية وتنشر فيها الفوضى. من يريد أن يتذكّر أن أول ما فعله غازي كنعان وقتذاك كان الاصطدام بـ"حزب الله" كي يؤكد له أن هناك مرجعية واحدة في البلد اسمها سوريا. وكانت المجزرة التي ارتكبتها القوات السورية في ثكنة فتح الله الواقعة في البسطة والتي ذهبت ضحيتها عناصر من "حزب الله"، ذبحت ذبحاً، أوضح دليل على المدى الذي يمكن أن يذهب إليه غازي كنعان لتأكيد أنه ليس مستعداً لتقاسم السلطة مع أحد.

إستفاد غازي كنعان من عوامل كثيرة ليبسط سلطته المطلقة على لبنان. وكان مستعداً للحوار على طريقته طبعاً، مثل استعداده للقتل من أجل تنفيذ مآربه. كان باختصار عقلاً جهنمياً استفاد من التناقضات الداخلية اللبنانية إلى أقصى حدود ووظّف هذه التناقضات واستخدمها، بما في ذلك سذاجة شخص مثل العماد ميشال عون الذي انتقل إلى قصر بعبدا في العام 1988 ليقسّم المسيحيين ويفتتهم تمهيداً لدخول القوات السورية إلى قصر الرئاسة ومقر وزارة الدفاع وكانا آخر معقلين لا يخضعان للنفوذ السوري المباشر في لبنان.

شاهد غازي كنعان مشروعه ينهار في لبنان. صار في حاجة إلى إذن للذهاب إلى لبنان. وفي الوقت نفسه، شاهد نظاماً سوريا مصرّاً على الانتحار بدءاً باتخاذ قرار بالتمديد للرئيس إميل لحود. وربما أدرك باكراً معنى ارتكاب أو تغطية جريمة في حجم اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاها وسبقها من جرائم في حق اللبنانيين الذين كان ذنبهم الوحيد أنهم سعوا إلى إصلاح العلاقات بين بيروت ودمشق وبين هؤلاء الشهيد والحبيب سمير قصير. لم يعد غازي كنعان، صاحب الطموحات السياسية الكبيرة، بل الكبيرة جداً، يجد في وجهه سوى الأبواب المسدودة، ففضّل الرحيل أو وُجد من يفضّل له الرحيل على رؤية المشهد الأخير في انهيار مشروعه إن في لبنان أو في سوريا. لقد أدرك غازي كنعان أن التحقيق في اغتيال رفيق الحريري سيقود إلى فتح ملفات كثيرة، بينها ملف الأموال التي استطاع أن يجمعها في لبنان والتي هي نتائج صفقات أقل ما يمكن أن توصف به أنها مشبوهة.. كذلك أدرك أن التحقيق سيقود في النهاية إلى فتح ملفات جرائم أخرى في لبنان بدءاً باغتيال كمال جنبلاط.
غادر غازي كنعان السفينة الغارقة باكراً. والأكيد أن "انتحاره" لن يكون الأول ولا الأخير في مرحلة يعاد فيها رسم خريطة الشرق الأوسط مع إعادة نظر بالأحجام والأدوار. ربما شاء غازي كنعان الاعتذار على طريقته، وهي الطريقة التي ربما لا يعرف غيرها، عما ارتكبه في حق عدد لا بأس به من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين الأوادم الذين ظلمهم...

هل هذا بحث عن أسباب تخفيفية لرجل عاش فترة طويلة في ظل نظام يُعاقِب ولا يُعاقَب إلى أن وجد نفسه في ظلّ نظام ليس أمامه سوى انتظار العقاب، نظام ستفتح كلّ ملفاته عاجلاً أم آجلاً. نظام لم يعد فيه مكان لأشخاص قادرين حتى على حمايته من تصرفات أهل النظام؟.

مصادر
المستقبل (لبنان)