في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2005 أفرجت الأمم المتحدة عن نص تقرير ديتليف ميليس، رئيس لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. وتبين أن اتهاما مباشرا قد وجه إلى الأجهزة الأمنية، اللبنانية والسورية، بالتخطيط وتنفيذ مؤامرة الاغتيال. لذلك أعقبته تداعيات محلية في لبنان وسوريا، ودولية قادتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. لكنه نبه إلى أن جميع المتهمين بالجريمة، بما فيهم الضباط اللبنانيون الأربعة الموقوفون في السجون، ما زالوا في نظر لجنة التحقيق أبرياء حتى تثبت إدانتهم بالطرق القانونية. ودعت اللجنة القضاء اللبناني إلى استكمال التحقيق بدعم دولي وبمشاركة فاعلة من الأجهزة الأمنية والقضائية اللبنانية.

ومع أنه تقرير ظني فقط، بدأت الولايات المتحدة تمارس ضغوطا متزايدة لعزل النظام السوري، وفرض عقوبات عليه بعد اتهامه مباشرة بأنه وراء الجريمة. وطالبت بضرورة تنفيذ القرار ،1559 وسحب سلاح “حزب الله” والمنظمات الفلسطينية، وفرض عقوبات دولية على سوريا ما لم ترضخ للجهود الدولية التي تقودها أمريكا لقيام مشروع الشرق الأوسط الكبير.

مرد ذلك إلى أن تقرير ميليس أشار إلى تورط مسؤولين أمنيين سوريين ولبنانيين في الجريمة دون أن يقدم أدلة دامغة على التورط، بل أوصى بمزيد من التحقيقات. وقد أقنع الأمم المتحدة بصدقية واضعيه فقررت التمديد لمهمة ميليس إلى منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول 2005.

وهنا تبرز أسئلة مقلقة لا حصر لها حول مستقبل النظام السياسي في كل من لبنان وسوريا بعد التقرير. وذلك يتوقف حول كيفية تصرف القوى اللبنانية والسورية حيال ما ورد فيه.

لكن جميع القوى، المحلية والعربية والدولية، التي تنشد الحقيقة فقط وتطبيق العدالة على المجرمين فقط وليس على الشعبين اللبناني والسوري، تستغرب الحملة الفورية التي تشنها الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، و”إسرائيل” لفرض عقوبات على سوريا استنادا إلى أدلة غير كافية كما تقول لجنة التحقيق نفسها، وقبل أن تشكل محكمة لبنانية، أو لبنانية دولية، أو دولية خاصة لمتابعة التحقيق وصولاً إلى أدلة دامغة لإصدار أحكام مبرمة غير قابلة للطعن من جانب المتهمين. علما أن روسيا أبدت تحفظها على هذا المنحى الدولي، وقد تعقبها الصين في هذا المجال. وهي تطالب بعدم تسييس جريمة الاغتيال وقطف ثمارها لمصلحة مخططات خارجية لا علاقة لها بالجريمة. ويتساءل المواطن العربي عن سبب غياب الدول العربية وجامعتها لصد هذه الحملة الشرسة على سوريا، ورفض تحميل الشعب السوري مغبة النتائج السلبية التي سيدفعها جراء فرض حصار أو تدابير غير مبررة على سوريا، تذكر بالحصار الذي فرض على العراق قبل احتلاله، وذهب ضحيته أكثر من مليون عراقي معظمهم من الأطفال بسبب تقص الأغذية والدواء.

فور صدور التقرير، دعا الرئيس بوش شخصيا الى تحرك فوري للامم المتحدة التي تجاهلها بالكامل يوم قرر إعلان حربه على العراق. وهو يريد اليوم الاستفادة منها لاستكمال مخططه في المنطقة بضرب سوريا والمنظمات اللبنانية والفلسطينية المعادية ل”إسرائيل”. لذلك وصف التقرير بأن “مقلق” للغاية، ويريدون لمجلس الأمن أن يصدر قرارات تهدد أمن واستقرار سوريا ولبنان.

لكن ما لم يتوقعه واضعو التقرير أن تأتي ردود فعل القوى المحلية، خاصة المعنية به مباشرة، على هذه الدرجة من اليقظة الوطنية. فدعت إلى رفض تسييس تقرير تضمن بعض الأدلة الجرمية التي لا تسمح بإدانة قاطعة ما لم يستكمل التحقيق من جانب قضاة، لبنانيين ودوليين، على درجة عالية من الخبرة في اكتشاف جريمة تم التخطيط لها وتنفيذها بحرفية بالغة من الإجرام.

لقد ربطت القوى السياسية والشعبية في سوريا ولبنان على الفور بين الجريمة وضرورة معاقبة منفذيها مهما علا شأنهم من جهة، وبين الدوافع السياسية وراء الحملة على سوريا والتي ستكون لها نتائج خطيرة تتخطاها لتطول مستقبل الحياة السياسية في لبنان وسوريا معاً من جهة أخرى.

باتت سوريا في مواجهة مجلس الأمن الذي شكّل المرجعية السياسية للجنة التحقيق الدولية المستقلة. وبعد أن أكد التقرير على ضلوع بعض المسؤولين الأمنيين والسياسيين فيها، تواجه الآن تهمة ارتكاب جريمة سياسية على أرض دولة أخرى مستقلة وعضو في مجلس الأمن. كما أن بعض قادة النظام السياسي والعسكري في لبنان هم في وضع حرج للغاية. فمنهم من أودع في السجن قبل صدور التقرير، ومنهم من يواجه صعوبة الاستمرار في السلطة.

وفي حال إضعاف النظام السوري وفرض رقابة دولية عليه، ومحاكمة أقرب حلفائه في لبنان سيضعف موقع “حزب الله” كثيراً بصفته من أقرب حلفاء سوريا، كما أن سلاحه عرضة للمصادرة بموجب القرار الدولي 1559. ويتخوف “حزب الله” ومعهم جميع القوى الوطنية والديموقراطية في سوريا ولبنان من أن يكون تسييس تقرير ميليس مدخلا لتحقيق مكاسب كبيرة مجانية لأمريكا و”إسرائيل”.

تلقت القوى السياسية اللبنانية التقرير بهدوء ملحوظ، وبكثير من الحكمة والتروي.

فعقد مجلس الوزراء اللبناني جلسة خصصت لمناقشة التقرير بتاريخ 22 أكتوبر/تشرين الأول 2005 وحضرها جميع الوزراء، ودعا المجتمع الدولي الى مساعدة القضاء اللبناني على استكمال التحقيقات ولم يناقش طلب إنشاء محكمة دولية بعدما أبدى “حزب الله” وحركة “أمل” تخوفاً من استخدامها لتصفية الحسابات مع سوريا. وأكد حرص الشعب اللبناني على معرفة الحقيقة بقدر حرصه على الوحدة الوطنية التي اعتبرها أقوى سلاح لمواجهة التداعيات السلبية للتقرير.

لقد أثبت اللبنانيون وعيا عميقا بخطورة المرحلة، وطالبوا بجلاء الحقيقة ووضع حد لمسلسل الاغتيال في لبنان، وبناء دولة عصرية، ومكافحة كل أشكال الجريمة، وعلى رأسها جريمة الفساد التي أشار إليها التقرير في بعض فقراته. وطمأن اللبنانيين إلى أن معاقبة الفاعلين تشكل مدخلا أساسيا لمشروع الاصلاح وقيام دولة القانون والمؤسسات، وتزيل بقايا حكم الأجهزة الأمنية.

لقد فجر تقرير ميليس صراعات سياسية قد تظهر قريبا. ولا بد للبنانيين والسوريين، ومعهم كل العرب، من أن يدركوا خطورة المرحلة وما يحاك لهم من مشاريع خارجية برعاية أمريكية.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)