هناك زحمة قرارات دولية صدرت تباعا عن مجلس الأمن خلال عشرة أيام وكلها تطالب بمعاقبة سوريا على ما ارتكبه نظامها الأمني من أعمال اجرامية في لبنان والتي توجت باغتيال الرئيس رفيق الحريري. فقد صدر تقرير المحقق الدولي ديتليف ميليس بتاريخ 21 اكتوبر/ تشرين الأول ،2005 ثم أعقبه التقرير الثاني للمبعوث الدولي تيري رود لارسن بتاريخ 26 منه والرامي الى تنفيذ ما تبقى من القرار 1559. وأخيرا وليس آخرا، صدر قرار مجلس الأمن 1636 بتاريخ 31 من الشهر نفسه، وأخطر ما فيه أنه صادر عن البند السابع الذي يجيز استخدام القوة العسكرية من جانب الأمم المتحدة في حال تمنعت سوريا عن تطبيقه.

الجامع الأساسي بين تلك القرارات هو فرض المزيد من الضغوط على سوريا، والزامها بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية تحت طائلة فرض عقوبات مباشرة وغير مباشرة عليها. وقد صدر القرار باجماع أعضائه. وذلك يطرح تساؤلات كثيرة حول سر هذا الالتفاف الكبير وراء الشرعية الدولية، وعودة أمريكا الى الأمم المتحدة بعد أن تجاهلتها طويلا وخاضت حربها على العراق من خارج مؤسساتها التنظيمية وقراراتها الشرعية. والسؤال المحوري في هذا المجال هو:

هل الولايات المتحدة الأمريكية عادت فعلا الى مجلس الأمن ايمانا منها بدور الأمم المتحدة في حل المشكلات الدولية بالطرق الدبلوماسية اولا، ومن خلال التلويح باستخدام القوة ضد العضو المتمرد؟ أم أنها عادت لتستظل بالشرعية الدولية من أجل استصدار قرار يتيح لها التفرد باستخدام القوة العسكرية في حال رفض باقي الأعضاء المشاركة فيه على غرار ما حل بالعراق؟

ليس من شك في أن الولايات المتحدة وبريطانيا تقتربان كثيرا من الأهداف “الاسرائيلية” الرامية الى اضعاف سوريا واجبارها على تقديم تنازلات جوهرية تضرب في الصميم مصالحها الاقليمية، وتعزلها عن المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية، وتلزمها بقبول المخططات الأمريكية و”الاسرائيلية”، والانخراط التدريجي في مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي يلغي الهوية القومية للنظام الاقليمي العربي بكامل دوله. فهو يؤسس لوحدة جغرافية لا هوية قومية لها، وتلعب فيها “اسرائيل” دور الموجه التكنولوجي، والاقتصادي، والمالي والاعلامي، بالتعاون التام مع الأمريكيين.

لقد ارتدت الوصاية الأمريكية الجديدة على سوريا ولبنان طابع الشرعية الدولية. مرد ذلك الى أن جميع دول الامم المتحدة، باستثناء امريكا، لا تمتلك مشروعا سياسيا أو اقتصاديا لمنطقة الشرق الأوسط. وهي تكتفي فقط بأسلوب الممانعة، أو التهديد باستخدام الفيتو في مجلس الأمن.

الا أن الولايات المتحدة عرفت كيف تلتف على تلك الممانعة لتصدر القرار 1636 بالاجماع، ومهدت الطريق لفرض عقوبات مباشرة على سوريا، تبدأ بمعاقبة بعض المتهمين باغتيال الرئيس الحريري ولا تنتهي الا بتغيير سياسة النظام السوري، طوعا أو بالقوة العسكرية. على جانب آخر، تؤكد التقارير الثلاثة التي صدرت تباعا، وخلال عشرة ايام فقط، على أن المسألة السورية، ومعها لبنان، قد وضعت على نار دولية حامية. وهي تتوسل الأمم المتحدة لفرض رقابة دولية مباشرة، أمريكية وفرنسية وبريطانية من حيث الشكل، وأمريكية فقط من حيث القدرة على التخطيط والتنفيذ واستخدام القوة العسكرية في منطقة الشرق الأوسط.

فقد عادت الولايات المتحدة الأمريكية مجددا الى مجلس الأمن من بوابة الأزمة السورية.

ولم يكن هذا التوجه الجديد في السياسة الأمريكية ممكنا لولا الأزمة الحادة التي يعانيها جيشها في العراق. الا أن السياسة البراغماتية التي اشتهر بها الأمريكيون تقدم الدليل على أن أمريكا تعدل فقط في أسلوب مقاربتها للأزمة دون ابداء الرغبة في تغيير أهدافها الاستراتيجية تجاه منطقة الشرق الأوسط. فهي لن تتخلى عن خوض مجابهة حادة، بأساليب مختلفة، مع النظام السوري لاجباره على الدخول، طوعا أو قسرا، ضمن تلك الاستراتيجية. وقد لا تكرر التجربة العراقية بسبب عدم نجاحها ونفقاتها المكلفة، ماديا ومعنويا على الشعب الأمريكي ونظامه الديمقراطي الذي تضررت سمعته كثيرا لدى العرب والمسلمين بسبب غزوه للعراق. الا إن صدور القرار 1636 بالاجماع عن مجلس الأمن يؤكد على أن ادارة الرئيس بوش عادت عن سابق تصور وتصميم الى مجلس الأمن الدولي بعد أن استخفت به طويلا وتعاملت معه بكثير من الخفة والفوقية، ورفضت المشاركة الفاعلة في برامجه وسياساته.

فهل الالتزام الامريكي الجديد من جانب ادارة بوش بالشرعية الدولية ومؤسساتها وآليات عملها التقليدية، هو فقط وليد الفشل الأمريكي في العراق، أم أنه ناجم أساسا عن طبيعة الأزمة المعقدة جدا مع سوريا، وأن طرق معالجتها تتطلب الكثير من الدبلوماسية واستبعاد مخاطر الحلول العسكرية؟ أم أن الولايات المتحدة باتت على قناعة من عدم قدرتها على التفرد بالهيمنة على العالم رغم تفوقها العسكري، والمالي، والاعلامي؟

ويشير كثير من المحللين السياسيين الى عدم وجود رغبة أمريكية بشن الحرب على سوريا أو اسقاط نظام الرئيس بشار الاسد، أو فرض عقوبات على الشعب السوري كتلك التي فرضت على الشعب العراقي وأدت الى وفاة اكثر من مليون عراقي معظمهم من الأطفال. ولعل الولايات المتحدة قد اقتنعت أخيرا بأن حلول الأمم المتحدة هي أكثر فاعلية من التفرد الأمريكي.

ختاما، يخشى السوريون واللبنانيون، ومعهم كل العرب ودول اقليمية أخرى في منطقة الشرق الأوسط من أن تعتمد التقارير الدولية منطلقا لتكرار سيناريو العراق في سورياً. ويبدي النظام السوري مرونة كبيرة في هذا المجال. فقد وافق الرئيس بشار الأسد على تشكيل لجنة تحقيق محلية، وأرسل بعض الدبلوماسيين الى الدول العربية لشرح موقفه، وطالب بانعقاد قمة عربية طارئة خلال الأيام القليلة القادمة. فهل يتحرك العرب لانقاذ سوريا بعد أن حماها مجلس الأمن، مؤقتا، من عقوبات كبيرة تخطط لها الولايات المتحدة وحلفاؤها في مجلس الأمن؟

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)