لوحظ ان تقرير ديتليف ميليس الى مجلس الامن الذي اتهم فيه سوريا بعدم كفاية التعاون مع التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري قد تعامل البعض معه كأنه قرار بينما البعض الآخر حاول تهميش ما ورد فيه، وبالتالي تجاهل مضامينه. وبدا اعتباره بمثابة ادانة مثل اعتبار مضامينه نسبياً سافرا يمكن حذفه واهماله. لذا اثارت المبالغة في تقرير توقعات لاجراءات فورية، او بالاحرى لاستدراج احكام سريعة. كما ان تجاهل، او تعمد تجاهل، ادلة واردة فيه استدرجت تصميما اميركيا – فرنسيا على دفع مجلس الامن الى الانعقاد للتصويت على قرار يطالب سوريا بالتعاون، او يدفع الى مزيد من التعاون، وإن تدريجيا ولكن دون التهديد بعقوبات قد تشكل استفزازا لمشاعر فئات شعبية واسعة في الدول العربية ومنها لبنان. فحتى اشد خصوم الجهاز الامني السوري اللبناني لن يستسيغوا مطلقا اي عقوبات من شأنها الحاق الغبن بالشعب السوري.

ثم جاء تقرير تيري رود – لارسن موفد الامين العام للامم المتحدة المكلف الاشراف على تنفيذ القرار 1559، في وقت بدا فيه، وإن بدون قصد، كأنه ضغط اضافي لتتفاقم الازمة بدلا من تهدئتها، خاصة ان مختلف الاطياف السياسية في لبنان اصرت على معالجة الشق المتعلق ببند "الميليشيات" – في القرار في حوار داخلي تشير بوادره الى تفاهم محتمل. وقد اعتبر البعض ان ما ورد في تقرير رود – لارسن هو بمثابة تدخل منقوص الحكمة في استيعاب حساسية الحوار وظروفه أكان في ما يتعلق باسلحة المخيمات الفلسطينية ام بسلاح المقاومة. وكان على تيري رود – لارسن ان يلحظ التقدم في المفاوضات والحوارات بدلا من التفسير البيروقراطي لبعض بنود القرار 1559. نقول هذا وفي خلفية تفكيرنا ومشاعرنا امتعاض، لا ننكره من ان على العرب الامتثال المطلق والحرفي والفوري لقرارات مجلس الامن في حين ان اسرائيل المدانة بخرق معظم قرارات مجلس الامن، ان لم تكن كلها، تبقى في منأى عن اي ضغوط عليها كي تمتثل للقرارات المطلوب منها تنفيذها!

الا ان هذا الامتعاض لا يعني اننا غير مدركين خطورة كلام غير مسؤول صادر عن الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الذي افسح المجال امام المتربصين ببلاده لان يوظفوا "زلة اللسان؟" وتلطوا وراء الاستفزاز اللفظي الذي صدر عنه كي ينتزعوا من مجلس الامن بياناً صحافياً كنا في غنى عنه، كما ان ما قاله الرئيس الايراني في لحظة انفعال كاد ان يحرف الانظار عن الممارسات الهمجية التي عاودتها اسرائيل في غاراتها على قطاع غزة الذي "خرجت منه"، كما في الاغتيالات المتكررة التي تقوم بها في مدن الضفة الغربية والامعان في تهويد القدس وحرمان الكثير من المصلين الوصول في آخر جمعة من شهر رمضان الكريم الى مسجد الاقصى.

واذا كان كلام الرئيس الايراني لم يكن في محله مطلقا، ولا مبرر له لانه استفزازي، فان افعال ارييل شارون في فلسطين وشراسة ممارساته وادمانه العدوان والتهويد، وخاصة في القدس، والاستيطان دون ان يقوم مجلس الامن باي محاولة جادة لتنفيذ قراراته او حتى ببيان صحافي، تشكل هي الاخرى استفزازا واثارة. لكن هذا لا يعفينا من ان نصرّ على مسؤولية الكلمة ودقة التعبير وسلامة الخطاب وبخاصة من اصدقائنا وانصار قضايانا وفي طليعتها قضية فلسطين.

وفي الوقت الذي كنت احرر هذا المقال جاءت انباء من الهند تصف التفجيرات في العاصمة الهندية عشية اعياد الديوالي وبعدها بايام عيد الفطر المبارك، وتقول الانباء الدولية ان عددا كبيرا من المتسوقين المدنيين قد ماتوا او جرحوا. وتأتي هذه العملية الارهابية بينما الهند تفتح حدودها في كشمير لضحايا الزلزال المهول في القطاع الباكستاني فيها مما ساعد في توفير فرص امام حلحلة ومن ثم حل للقضية التي استعصت على الحل لاكثر من نصف قرن. وكأن التنظيم الارهابي الذي قام بهذه الجريمة الشنيعة اراد اجهاض احتمال اي تفاهم ممكن بين الدولتين الجارتين وتعريض المسلمين في الهند لممارسات بعض المتطرفين الهندوس من طريق توظيف مشاعر الغضب لازالة المكاسب التي حققتها القوى الديموقراطية والعلمانية التي عبر عنها حزب "المؤتمر" بقيادة سونيا غاندي. وكأن المتطرفين من كلا الجهتين يعملون على احياء التصرفات العبثية لاجهاض تجارب التنمية الديموقراطية والعلمانية في المجتمعات التعددية. وهذا دليل آخر على ان مثل هذه العمليات الاجرامية يعطي ذرائع لحرف الانظار عن ممارسات الاملاء والهيمنة التي تعمل بعض الدول الغربية على فرضها على مصائر شعوب عالم الجنوب.

ولا يكفي ان نستنكر مثل هذه الاعمال بل ان تكون مجابهاتنا لشتى انواع الارهاب ناتجة من اقتناع بعبثيتها ولا اخلاقيتها اضافة الى الاضرار التي تنتج منها وتصيب مشاريع الانعتاق من الهيمنة، لذلك يتعين التركيز على اولويات الوحدة الوطنية في المجتمعات النامية. وفي هذا الحدث لا بد من الافادة من انفتاح الهند على باكستان لانجاز المصالحة التاريخية بينهما التي يخاف الارهابيون استكمالها كونها تضيق الخناق على تحركها وامكاناتها وبالتالي على زور "جاذبية" يدّعونها.

جاءت نتائج التحقيق في الولايات المتحدة والذي استمر نحو عامين والتي اعلنها باتريك فيتزجيرالد واتهم فيها بوضوح لويس ليبي رئيس ديوان نائب الرئيس ديك تشيني بتسريب اسم عميلة في الـ"سي اي اي" انتقاما من زوجها المعارض للحرب في العراق والذي فضح اكذوبة استيراد العراق للاورانيوم من النيجر - جاءت بمثابة صدمة قاسية للبيت الابيض وادارة الرئيس جورج بوش. ورغم ان الاتهام لم يشمل المستشار السياسي الرئاسي كارل روف الا ان ابقاؤه عرضة لمزيد من التحقيق يشير الى دقة التحقيق وحجم الاتهام واهمية الجريمة التي يتم استكمال التحقيق لاحقا بها. وقد تعمد فيتزجيرالد حصر نتائج التحقيق في اتهام ليبي كي يوفر له مستقبلا صدقية كاملة وادراكا منه للتداعيات السياسية المحتملة وبالتالي اصراره على حصر الاتهام بالكذب والتستر والتناقضات في شهاداته دون التوسع في نشر المعلومات التي لديه.

لذا يبدو ان البيت الابيض يعيش حالة من القلق مشابهة للقلق الذي يلازم الاوضاع الراهنة في سوريا، فالرئيس بوش يدرك ان استمرار التحقيق، اضافة الى المعلومات المتوافرة للمحقق فيتزجيرالد تنطوي على احتمالات ان ما قام به نائبه تشيني قد تؤول الى ما آلت اليه فضيحة واترغيت، وادت الى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون مطلع سبعينات القرن الماضي. واننا نستنتج هذا التوقع من كون ما تنطوي عليه هذه المعلومات قد تفتح ملف اسباب الحرب على العراق واعمال التزوير والابتزاز التي طالت الذين شككوا في صحة المعلومات، والدوافع لغزو العراق، وجرى التعريض بوطنيتهم مما وفّر غطاء سياسياً لفريق المحافظين الجدد الذي كانوا القوة الضاغطة لدفع الرئيس بوش الى نيل صلاحيات من الكونغرس للقيام بالغزو. وتجيئ استقالة ليبي في وقت تتزايد فيه معارضة الاميركيين للحرب في العراق وتتناقص بشكل كبير شعبية الرئيس بوش وتتنامى مساءلته في طريقة معالجته لاعصاري "كاترينا" و"ريتا" وما ينتاب حالياً فلوريدا وتكساس من اعاصير.

والسؤال المطروح في هذا الصدد: هل ان الازمة التي تحوط رئاسة بوش سوف تحرضه على ترحيل تداعيات الازمة نحو مغامرات في الخارج، ام انه سوف يركّز اهتمامه في الاشهر التسعة والثلاثين من ادارته على ترميم صورته واعادة بناء قاعدته الشعبية وبالتالي حكم التاريخ على رئاسته؟

يبقى القلق وارداً في كل من العاصمتين واشنطن ودمشق، اضافة الى مآسي بغداد وفلسطين، واخيراً جريمة الارهاب في نيودلهي.

والدرس يكمن في ان بمقدار ما يكون هناك تعاون مع المحققين من البيت الابيض ودمشق بمقدار ما ينقص القلق في كلتا العاصمتين.

مصادر
النهار (لبنان)