ثمة التباسات ومغالطات سياسية تجتاح المشهد السوري في ضوء جديد موقف الشرعية الدولية وإجماعها على القرار 1636 الذي جاء في إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنح مجلس الأمن حق فرض أقصى العقوبات وحتى استخدام القوة ضد طرف صار يعتبر مصدر تهديد للأمن والسلم الدوليين.

الالتباس الأول، وضع إشارة مساواة بين الشرعية الدولية وقراراتها وبين الضغوط الأميركية على دمشق وأغراضها. فما يواجه السلطة السورية اليوم ليس مخطط أميركي مبيت للنيل من سياسات النظام «ومواقفه الوطنية والقومية»، بل قرار لأعلى هيئة دولية حول قضية محددة هي جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه، ويتلخص محتواه في ضمان تعاون السلطة السورية لاستكمال التحقيق وتسمية الجناة، وتالياً فهو لا يتضمن أي اشتراط سياسي خارج هذه القضية أو ضغط لتغيير سلوك النظام السوري في لبنان أو العراق أو فلسطين كما يحاول بعضهم أن يوحي، للتهرب من العياني المحدد نحو تسييس الأمر وقرنه بالمطالب الأميركية، مع أن هذا البعض، وللمفارقة، من أشد المناهضين للتسييس!

وطبعاً لا يغير من حقيقة ما سبق أن تسعى الولايات المتحدة إلى تجيير هذا القرار بما يخدم مخططاتها أو محاولة استغلال تقرير المحقق الألمامي ديتليف ميليس بما يخدم أغراضها ومراميها السياسية، فذلك لا يعيب قرار مجلس الأمن أبداً ولا يضير التقرير ذاته ولا يجعل منهما تلقائياً قراراً وتقريراً سياسيين للطعن في الشرعية الدولية وبالمعايير المهنية التي التزمت لجنة التحقيق بها.

وإذ يذهب بعضهم الى السخرية من دور مجلس الأمن والتشكيك في نزاهة لجان التحقيق الدولية ويدعي أنها قابلة للبيع والشراء وصياغة تقرير يرضي مطامع القوة الأعظم، وهي واشنطن اليوم، فهو يسخر من العالم، وخصوصاً الدول الكبرى الصديقة صاحبة العضوية الدائمة أو الموقتة في مجلس الأمن، التي طالما استقوت بها الشعوب الضعيفة لنصرة حقوقها، وبالتالي يسقط مسبقاً الرهان على أن تكون المنظمة الدولية ربطاً مع الإصرار على تعزيز دورها وأيضاً تصويبه، هي بالذات أحد أفضل أدوات ردع العنجهية الأميركية وغطرستها!

صحيح أن واشنطن هي الطرف الأقوى في عالم اليوم وضغوطها معروفة ومكشوفة في تسخير كثير من قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن لتمرير سياساتها، لكن الصحيح أيضاً أن هامش استقلالية هاتين المنظمتين ليس ضيقاً كما يتصور بعضهم، وأن لجان التحقيق الدولية ليست أداة طيعة في يد أميركا. ثم من الصعب نجاح عملية شراء الذمم أو حصول مقايضات في ضوء التوازنات الراهنة، وفي ظل إعلام فضائحي يقف بالمرصاد واثبت نجاعة مذهلة في كشف المستور وما يجري في الخفاء أو تحت الطاولة. وفي هذا الإهاب نذكر من يحلو لهم استحضار تجربة العراق مثالاً، بأن مجلس الأمن هو ذاته الذي شكل لجان تحقيق للكشف عن أسلحة الدمار الشامل في العراق ولم تستطع أميركا تطويع إرادة هذه اللجان وتحوير تقاريرها كي تبرر حربها، وتالياً هو المجلس ذاته الذي اتخذ قراراً ضد الحرب الأخيرة على العراق وأجبر لندن وواشنطن على الذهاب إليها دون إذن عالمي أو شرعية دولية.

الالتباس الثاني، هو الإصرار على دمج مسؤولية بعض رجالات النظام بالدولة أو بالمجتمع السوري ككل، اذ ان ثمة مسافة يجب أن تؤخذ بوضوح بين النظام وبين أفراد هم موضع اشتباه واتهام، ثم بينهم وبين سورية كدولة وشعب، وهذا الأخير لا يتحمل، ويجب ألا يتحمل، وزر أخطاء ارتكبها أو سهل ارتكابها سياسيون أو مسؤولون امنيون، فهؤلاء هم المعنيون أولاً وأخيراً بمعالجة أخطائهم، وفي حالتنا هذه، بالرد على مسار التحقيقات ومنائجها عبر دلائل وقرائن تؤكد براءتهم مما جرى في 14 شباط (فبراير) 2005.

إن النخبة الحاكمة التي نصبّت من نفسها وصياً على مصالح الوطن ووكيلاً حصرياً على حاضره ومستقبله، ولم تفوت فرصة لتؤكد سلطتها وشرعيتها تحت شعارات «الوطن أولاً» و»مصلحة الوطن هي العليا»، يفترض بها أن تكون أول من يبادر الى تحمل المسؤولية عندما تقتضي المصلحة الوطنية ذلك، للذود عن البلاد وتجنيبها المزيد من الحصار والعزلة وربما العقوبات الاقتصادية والعسكرية!. ولنسأل أين مصلحة المجتمع السوري في وضعه في مواجهة مع الشرعية الدولية أياً تكن الأسباب أو الحجج والذرائع! إن قدر مجتمعنا الضعيف والمحاصر هو الاستقواء بالأمم المتحدة وقراراتها، على رغم معاناته من مثالبها تجاه الحقوق العربية وبخاصة فلسطين، لجهة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين. طبعاً ليس لأن هذه الشرعية هي البديل المرتجى، بل لأنها الإطار الأقل سوءاً وظلماً لحقوقنا، ناهيك عن أن اهتمام الجماعة الدولية في كشف حقيقة اغتيال الحريري يشكل سلوكاً ومعلماً بارزاً لدور أممي جديد في التدخل الميداني للحد من أساليب العنف والاغتيالات السياسية أياً يكن الطرف الذي يقوم بها.

الالتباس الثالث، يقوم على جدوى ما يسمى «التنازلات»، والقول إن الاستجابة لمطالب المجتمع الدولي لن تجدي نفعاً، وإن الأمور تسير وفق مخطط مرسوم مسبقاً سواء تعاونت السلطة السورية أم لم تتعاون، وأن كل خطوة إلى الوراء ستجر خلفها خطوات وتترك الباب مفتوحاً أمام شروط متتالية وإملاءات تطعن بمبدأ السيادة وقد تهدد استقرار المجتمع السوري في الصميم. ويبدو أن الغرض من طرح مثل هذا الرأي هو تحرير السلطة من مسؤوليتها ومسؤولية ما ستؤول إليه الأوضاع في حال رفضت التعاون مع قرار مجلس الأمن، بما في ذلك تسويغ الفعل الهجومي وما يرفع من عبارات تحدٍ وشعارات لا تمت إلى الواقع والإمكانات بأي صلة.

إن قرار المجتمع الدولي واضح وحدوده واضحة، ويعرف القاصي قبل الداني أن ليست لدى مجلس الأمن أية أغراض مبيتة ضد سورية ان هي امتثلت لقرار الشرعية الدولية من دون مناورة أو التفاف. بل على العكس يساعدها التعاطي الايجابي في تقوية حضورها وتحسين سمعتها في أوساط الرأي العام العالمي، ويشجع الأطراف الصديقة في مجلس الأمن على دعمها والتصدي لأي محاولة لدفع نتائج التحقيقات في عملية اغتيال الرئيس الحريري أبعد من حدود هذه الجريمة ومقتضياتها. ثم لماذا نتغافل هنا، ونحن نرفع الشعارات ضد التدخل الخارجي، عن حقيقة تقول إن خروج سورية عن الشرعية الدولية هو الذريعة التي تنتظرها واشنطن على أحر من الجمر كي تمرر سياساتها العقابية وربما العدوانية من دون ردود أفعال عالمية تذكر؟!.

ليس ثمة ابتعاد عن الواقع أو مبالغة في القول إن الاستجابة لقرار الشرعية الدولية هو ما يمكن أن يستجر دعماً رسمياً لسورية، ورأياً عاماً عالمياً مسانداً، لها حتى داخل الولايات المتحدة نفسها، ويمكن بمثل هذا الخيار لجم أي عدوان وتعويض الضعف الاقتصادي والعسكري تحت وطأة عدم جدوى الخيارات الأخرى أو اندفاعها نحو المغامرة والتوغل في المجهول.

متغيرات كثيرة حدثت، لم تأخذها السياسات السورية في الاعتبار أو رفضت التأقلم معها، إما عن ضعف وعجز، أو ربما عن تشبث واعٍ بمصالح وامتيازات لا يريد أصحابها التنازل عنها أو عن بعضها حتى لو كان الطوفان، أو لعل الأمر سوء تقدير وتضخيم للذات والاعتقاد بأن سورية لا تزال تشكل الرقم الصعب في المنطقة والذي لا يمكن بأي حال تجاوزه، وأن ما راكمته من قوى وخبرات عسكرية ومن صلات وأوراق نفوذ، يستحق أن يؤخذ بالحسبان وأن لا يهمل، بالتوازي مع العزف على وتر التحذير من خطورة تغيير الأوضاع والتهويل بأنه الخيار الأسوأ أمام احتمال حضور فوضى لا تبقي ولا تذر، أو احتمال حضور تيار إسلامي متشدد يتحين الفرصة للانقضاض على السلطة والمجتمع!.

ربما قدر سورية انها وجدت في منطقة حساسة من العالم، أو بالتعبير الأميركي «منطقة المصالح الحيوية»، وهي منطقة لم تعرف الاستقرار طيلة عقود بسبب قوة حضور المصالح الغربية وتنامي الدور الصهيوني ومخاطره. لكن لم يعد من المجدي التعاطي مع هذه الخصوصية عبر تحوير الحقائق أو من خلال حملات تعبئة ساخنة، إيديولوجياً وسياسياً. فمثل هذه العقلية جربت لعقود ولم تعط ثماراً وكانت النتائج ما وصلت إليه حالنا اليوم.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)