نصر شمالي

الذين حاصروا العراق على مدى ثلاثة عشر عاماً (1991-2003) كانوا طوال تلك السنين مثل الذئاب التي تعاني هيجان عصارات المعدة! لقد كانوا حقاً قطعاناً متوحشة تتأهب لافتراس الإنسان في مهد المدنّية البشرية من أجل التهام ثرواته النفطية.

على مدى الحصار الطويل المحكم، المترافق مع العقوبات الاقتصادية المميتة، توالى إطلاق الذرائع تمهيداً لتتويج الحصار بالاحتلال، لكن لجان التفتيش لم تقع على أي أثر يؤكد أياً من تلك الذرائع، خاصة ذريعة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وكانت تعود دائماً خائبة إلى من أرسلها، إلى حيث توجد حقيقة أسلحة الدمار الشامل التي استعملت فعلاً ضدّ اليابان، وحينئذ اتخذ بول وولفويتز وضعية شايلوك، وأعلن ما يلي:" إذا قال العراقيون أنه ليس بحوزتهم أسلحة دمار شامل فإنهم كاذبون، وإذا لم يتم العثور على هذه الأسلحة فهم يخفونها"!

وقائع أشبه بالقصص الخيالية!

لقد كان التصميم على احتلال العراق قاطعاً، فأغلقت جميع السبل أمامه لمنعه نهائياً من تأكيد الحقيقة الثابتة، وهي أنه لا يملك أسلحة دمار شامل! والذئاب الصهاينة، من أمثال وولفويتز(مدير البنك الدولي حالياً) لم يتجاهلوا تأكيدات العراق الثابتة فحسب، بل تجاهلوا أيضاً ما أعلنته تباعاً لجان التفتيش الدولي عن خلوّ العراق من مثل هذه الأسلحة!
يقول الرئيس الماليزي السابق محاضر محمد:" إن فرضية عدم وجود أسلحة الدمار الشامل كانت تعني - طبعاً - عدم إمكانية العثور عليها، وطبقاً لأقوال وولفويتز فإن ذلك يعني، بكل بساطة، أن العراقيين يملكون مثل هذه الأسلحة ويخفونها، وكما نعرف جميعنا الآن فإنه لا توجد أسلحة دمار شامل في العراق، لكن العقوبات استمرت، ثم كان الاحتلال"!
إن ما حدث ويحدث في العراق أقرب إلى الخيال من حيث خوائه المنطقي، فهو يشبه قصة الذئب الذي اتهم الحمل بتعكير الماء وانتهت بافتراس الحمل، أو حكاية ليلى والذئب التي انتهت بهزيمة الوحش المفترس، حيث على الرغم من هلاك مئات الآلاف من الأطفال العراقيين، الذين يشبهون ليلى في القصة الشهيرة، فإنهم لم ينقرضوا، وما زالوا يتجددون أبهى رونقاً وأعظم عنفواناً، ويؤكدون يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام مناعتهم الصلدة في مواجهة حرب الاستئصال التي يشنها ضدّهم متوحشون تمّرسوا في عمليات إبادة الشعوب!

أقوال الذئبة الأميركية الصهيونية!

ولكي نبيّن كيف أن وقائع الحرب ضدّ العراق أشبه بالخيال، ومثل قصة ليلى والذئب، نذكر أن مادلين أولبرايت كانت في الثلث الأول من زمن الحصار سفيرة لواشنطن في هيئة الأمم، وقد سألها الصحفيون حينئذ عن عمليات القصف والعقوبات الاقتصادية التي يتعرض لها العراق، وعما إذا كانت الغاية من العقوبات تبّرر هلاك نصف مليون طفل عراقي، فأجابت الذئبة الأميركية الصهيونية:" أرى أن هذا الخيار (قتل الأطفال طبعاً) خيار صعب للغاية، لكننا نعتقد أن النتيجة المرجوة تستحق هذا الثمن وتجعله مرضياً"!

لقد حدث هذا في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، الذي أصبحت أولبرايت وزيرة خارجيته في ولايته الثانية، ونذكر هذا كي لا يخطئ البعض فيميزون بين عهده الديمقراطي وعهد خلفه الجمهوري، فقد أنجز الأول معظم الحرب بالحصار الطويل المحكم وبالعقوبات البالغة القسوة وبالقصف المتواتر المدمّر، بحيث اعتقد الثاني أنه سوف يدخل العراق سالماً غانماً في فصل الختام السعيد، أما أن الشعب العراقي العظيم فاجأهم وصعقهم، وكشف لهم أن الحرب ليست في نهايتها بل في بدايتها، فهذه قصة أخرى!

الاستنجاد بالعراقيين والأوروبيين!

اليوم، في نهاية عام 2005 وبعد مرور حوالي ثلاثة أعوام على بداية احتلال العراق، تكتب المسؤولة الأميركية المتقاعدة مادلين أولبرايت قائلة:" إن الحرب العراقية، التي تكهن البعض أنها ستكون بمنتهى السهولة، تفسح المجال أمام مقارنتها بحرب فيتنام"! أما عن "خطة النصر" التي عرضها الرئيس جورج بوش فتصفها أولبرايت بأنها "حيلة علاقات عامة أكثر من كونها استراتيجية جدّية"! تقصد أنها محاولة لحفظ ماء الوجه أمام العالم! وأما عن تصوّرها لكيفية خروج واشنطن من المأزق العراقي الخطير فتقول أولبرايت:" لعلّ بإمكان الأميركيين وحلفائهم أن يأملوا بهدية وحيدة يجدونها تحت شجرة عيد الميلاد هذه السنة، وهي حكومة عراقية منتخبة قادرة على قيادة البلاد بدلاً من التعّرض لهزيمة أخرى على طريق النجاح"!

إن مادلين أولبريت، التي أسهمت بالتحضير لاحتلال العراق، تستنجد بحكومة عراقية تابعة وقادرة، تقوم نيابة عن الأميركيين بإبقاء طريق النجاح سالكاً، وهي تستنجد أيضاً بالحلفاء الأوروبيين، داعية إياهم للقيام بواجبهم في العراق كشركاء تاريخيين، وللتعبير عن هذه الشراكة بالأقوال والأفعال، من أجل تحقيق " نتيجة مرضية في العراق"! تقول أولبرايت مخاطبة الأوروبيين:" صحيح أنها حرب لم تبدأها أوروبا، لكن الولايات المتحدة لم تكن من بدأ الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك وافقت على حصتها من نتائج الحرب"!
هكذا تبدّد حلم الذئبة الأميركية في افتراس ليلى العراقية، وهاهي تنكفئ منهكة تلعق جراحها وتنشد العون من ضحاياها ومن حلفائها، علماً أن حلفاءها حذروها مسبقاً من مغبّة المغامرة العراقية، لكنها أهانتهم واستبعدتهم على أمل الانفراد بالفريسة!