نصر شمالي

لم يحدث أن بدت الإدارة الأميركية متلهّفة مترقّبة مثل يوم حادث سامراء الإجرامي، فقد جاءت ردود فعلها فورية جاهزة، كأنما هي كانت على علم مسبق بتوقيت تدمير المقام المقدس، وأيضاً كأنما هي تأمل أن تشتعل على الفور حرب أهلية طائفية تجتاح العراق بأكمله فلا تبقي ولا تذر، وبالطبع فإنه لمن السذاجة أن يخطر في بال عاقل وجود جهة وطنية عراقية، أياً كان دينها أو مذهبها، وراء ارتكاب مثل هذه الجريمة، فما حدث معلن الأسباب والأهداف مسبقاً، وبالتالي فإن الفاعل مكشوف تماماً، إلا لأعمى البصر والبصيرة!

منذ أواخر عام 2004 بدأ المحللون السياسيون الأميركيون يتحدثون عن الفشل التام للعملية الحربية الأميركية العظمى في العراق، فالجسم العراقي رفض نهائياً تطعيمه بنسيج جراحي أميركي، وصار الانسحاب العسكري محتماً، إنما متى وفي ظل أي ظروف؟ فالانسحاب كيفما اتفق لا يقبل به حتى القادة العسكريون الأميركيون الذين اعتقدوا أن احتلال العراق كان خطأ جسيماً، لأنه لا يجوز أن يبدو كصفعة على وجه الجيش الأميركي وكهزيمة للولايات المتحدة، وهكذا بدأ العمل على توفير الأسباب لأحد وضعين يساعدان على تحقيق انسحاب يحفظ لواشنطن ماء وجهها: الأول نهوض حكومة عراقية تابعة قادرة على إلحاق الهزيمة بالمقاومة وعلى ضمان المصالح التي جاءت بالمحتلين إلى العراق، والثاني إشعال فتيل الحرب الأهلية على الطريقة البلقانية اليوغسلافية، بحيث يصبح المحتلون خارج دائرة الصراع العراقي الشامل، بل يتوهم الكثير من العراقيين أنهم بحاجة لوجودهم كي ينجدوهم ويخلصوهم من أهوال الحرب الأهلية العمياء الصماء! غير أن المحاولتين لم تنجحا وأحبطتا بفضل وعي الشعب العراقي العظيم، فكانت عملية سامراء محاولة كبيرة وأخيرة، أريد لها أن تكون كافية حسب اعتقادهم لإشعال الحرائق في كل مكان قبل أن يستردّ الناس روعهم أمام فظاعتها، وينجحون في إخمادها والحيلولة دون انتشارها واستمرارها!

وفي معرض الوقائع، فقد كان في العراق، نهاية عام 2004، حوالي 150 ألف جندي أميركي، منهم حوالي 30 ألفاً من المارينز أو الوحدات الخاصة النظامية، المجهّزة لتنفيذ أكثر العمليات وحشية وقذارة، كما فعلت في الفلوجة، وإلى جانب هذه القوات النظامية كان هناك أكثر من 20 ألفاً من قوات المرتزقة الخاصة التابعة لشركات أمن أميركية، والمشكلة في معظمها من جنود متقاعدين. لقد حشدوا في العراق أكبر جيش مرتزقة في التاريخ الحديث! وهؤلاء المرتزقة هم الذين قتل أربعة منهم على أبواب مدينة الفلوجة، والذين ثأرت لهم الوحدات الخاصة النظامية ثأراً لا مثيل له! لقد كان المرتزقة الأربعة موظفين في شركة "بلاك ووتر" الأمنية الأميركية، المتعاقدة مع البنتاغون بألف دولار يومياً عن كل مرتزق يعمل في العراق! ويتقاضى المرتزق من الشركة مبلغاً يتراوح ما بين 250-500 دولار يومياً! وفي ذلك العام (2004) كانت الحكومة الأميركية قد رصدت لعقودها مع شركات الأمن (الأصح شركات المرتزقة) أكثر من 90 مليار دولار! وقد وقع أول اشتباك مهم بين المرتزقة والعراقيين في أواسط ذلك العام، حيث قتل مرتزقان تابعان لشركة "ستيل"، وبما أن المرتزقة في معظمهم يتواجدون في العراق بصفتهم موظفين مدنيين يعملون في إعادة إعمار العراق، ولا علاقة لهم بالقتال، فقد تسترت الشركة في البداية على الخبر، ثم اضطرت لإصدار بيان قالت فيه أن رجالها قتلوا دفاعاً عن النفس! ولنلاحظ كيف أن شركة خاصة، مدنية، تصدر بياناً حربياً كأنما هي وزارة دفاع!

تجدر الإشارة هنا، قبل العودة للسياق العراقي، إلى أن ظاهرة "مقاتلي الشركات"، أو المرتزقة، أو الجيوش الخاصة غير الرسمية، تعود إلى ما قبل خمسين عاماً، فهي انطلقت مع انطلاق شركات البترول إلى أماكن بعيدة في أنحاء العالم، حيث شركات البترول راحت توقع مع شركات المرتزقة عقوداً لتوفير الحراسات لمنشآت وموظفي النفط. وفي الوقت نفسه انطلقت ظاهرة الحروب الأهلية في بلدان الثروات الخام، المستعمرة وشبه المستعمرة، فقد كانت الشركات تشعل الحروب الأهلية بواسطة مرتزقتها كي تنشغل الشعوب بكوارثها الداخلية عن ثرواتها المنهوبة! لقد حدث ذلك في الكونغو حيث اغتيل الرئيس لومومبا، وفي أنغولا وموزامبيق، وحديثاً في جزر القمر حين حاول المرتزقة الأوروبيون إسقاط الحكومة لصالح الشركات الفرنسية، ثم في غينيا الاستوائية لصالح شركات بترول أميركية! وغني عن القول أن الأسلوب ذاته متبع في أميركا الجنوبية، وفي آسيا وأوروبا أيضاً. وقد تطور دور المرتزقة خلال العشر سنوات الأخيرة، بعد انتشار القوات الأميركية في الخليج العربي، وفي وسط آسيا، وفي البلقان، حيث انتشر معها المرتزقة بموجب عقود تبرمها شركاتهم مع الحكومة الأميركية حتى يتفرّغ الجيش النظامي لمهامه الحربية الكبرى، بينما تترك للمرتزقة التفاصيل والعمليات القذرة! وتتضمن العقود تدريب جيوش وشرطة الدول المحتلة، أو التابعة، وحراسة حكامها، كما هو حال الرئيس الأفغاني كرزاي!

لقد حدثت في العراق بعد احتلاله جميع الأمور التي أشرنا إليها، إنما بتركيز من العمليات أشدّ وبأعداد من المرتزقة أكبر، وقد جرى التعاقد منذ البداية مع أكثر من خمسة وعشرين شركة أمنية أميركية خاصة، وذلك بسبب حجم القوات الأميركية النظامية الكبير، وبسبب حجم المهام الموكولة إليها في العراق وفي نطاق ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الأكبر.

وما حدث ويحدث في العراق أن الشركات تحاول حماية نفسها من دفع التعويضات لأهالي المرتزقة عندما يقتلون، ولذلك تحاول هذه الشركات تحميل المسؤولية للشرطة العراقية كي تدفع الحكومة العراقية التعويضات الباهظة، أو للقوات الأميركية التي يزعمون أنها لم تؤازرهم بما يكفي، كي تدفع الحكومة الأميركية، علماً أن تعويضات المرتزقة الأربعة الذين قتلوا في الفلوجة تساوي عشرات ملايين الدولارات بمقاييس المحاكم الأميركية!

ويتسلح المرتزقة في العراق بأحدث التجهيزات الحربية و التدميرية، فبحوزتهم، إضافة إلى المركبات البرية المصفحة، طائرات مروحية حربية، وأجهزة كمبيوتر ذات استطاعات عالية، وصور الأقمار الصناعية التي ترشدهم على مدار الساعة في تحركاتهم وعملياتهم الإجرامية، فقد ازداد اعتماد القوات الأميركية في العراق على المرتزقة بعد الاستعصاء الخطير الذي وقعت فيه. إن العقود المبرمة معهم منذ عام 2004، فقط لحماية ما يسمى "المنطقة الخضراء" في بغداد، تتجاوز مائة مليون دولار! وكلما أمعن الأميركيون في عملية "تسليم السيادة للعراقيين" يزداد اعتمادهم على المرتزقة، حيث يتطلعون إلى الخروج من شوارع المدن على الأقل، الأمر الذي يعني مزيداً من حضور قوات المرتزقة، ومزيداً من الجرائم الغامضة التي تدفع العراقيين للاقتتال في ما بينهم، وهو ما حدث على مدى أكثر من نصف قرن، من أفريقيا إلى البلقان، وكان ناجحاً عموماً، لكنه كما يبدو اليوم لن ينجح في العراق أبداً وقد برهنت نتائج عملية سامراء الإجرامية الفاشلة على ذلك.