إلى أي حد تراه كان مفاجئا ذلك التصريح للمندوب الأممي والذي وصلنا من الضفة الأخرى للعالم , من البيرو بالتحديد , حول أعداد المرتزقة الموجودين الآن في العراق , والذين لم يعدموا بين من أعدوا عنهم هذه الدراسة الميدانية العتيدة من ينحت لهم تسمية تثير بعض الحسد بتهذيبها الجم , و ذلك عندما أشير إليهم على أنهم "متعاقدون أمنيون" في شركات خاصة , لا أقل .

نعم , (30000 - 50000) ثلاثون إلى خمسين ألفا منهم باتوا _ ليس بين ليلة وضحاها _ يشكلون على الأرض قوة ذات جهوزية عسكرية لا يمكن تجاهلها , و تأتي تماما من حيث التأثير و الوزن التعبوي العملا ني في المقام الثاني بعد قوات جيش الاحتلال الأميريكي "النظامية" , و التي يتوقع أن يرتفع عديدها إلى ما يربو على (151000) مائة و واحد و خمسين ألف جندي في حال كتب النجاح و التنفيذ العملي للوحي الذي يتنزل على السيد دبليو بوش وفق تصريحاته هو نفسه , و المسمى وضعيا بالاستراتيجية الأميريكية الجديدة لإدارة البيت الأبيض تجاه العراق .

و أول ما يتبادر لذهن بعضهم من سيئي النوايا من القراء و محللي الخبر لدى الاطلاع على فحوى الأسطر الأولى من هذا التصريح ؛ هو الاستغراب المبيت من استثناء الجنود الأميريكيين المتواجدين على الأرض العراقية من توصيف الارتزاق , إذ لا يكاد المرء يتمالك نفسه من الاستسلام هنا لمراودة ذلك الميل الحاد لدمج الرقمين مع بعضهما لإعطاء بعد ربما أكثر واقعية و مصداقية للراهن الملموس , و هو أمر لا يستهجنه حقا بل يعترف به و يشعر بالعار منه كثير من الجنود و العسكريين الأميريكيين أنفسهم , وتكفي مراجعة سريعة للتصريحات التي يبثها الإعلام متفرقات هنا وهناك بين الحين والآخر لإدراك مدى استشراء هذا الشعور بالذات في صفوف المجندين الأميريكيين و البريطانيين على وجه الخصوص .

لكن حتى و إن تحقق لبعضنا هذا الجمع الرياضي بين الرقمين ؛ فإن الحصيلة النهائية ستبقى غير معبرة و بعيدة عن الدقة المنشودة , و لا تكاد تمثل في أحسن حالاتها ولو حتى مجرد مقاربة دنيا لواقع الحال الذي أفضت إليه المتغيرات و التقلبات المستفحلة في هذا البلد , إذ يبدو أن السيد خوسيه لويس غوميز عضو مجموعة العمل التابعة للأمم المتحدة الذي أعد هذا التقرير مع فائق الاحترام ؛ قد استخدم معايير قديمة و غير موضوعية في إحصاءاته !
فإلى كم عساه سيرتفع الرقم ويهبط التقييم ؛ إذا أردنا حقا أن نحصي الأعداد الحقيقية الفعلية لهؤلاء المرتزقة الوالغين في مستنقع الدماء هذا؟

هل هم الأجانب حقا و دائما كما يحلو للحكومة العراقية الرشيدة و أخصامها المعصومين على السواء ؛ أن يدعوا و يروجوا ذات اليمين وذات الشمال بعد كل تفجير و فجور ؟
ماذا عنا نحن إذا ؟ مالذي تراه يميزنا عن أولئك الذين قدموا و استقدموا ليجربوا فينا وعلينا ذخائرهم و ديموقراطياتهم و إستراتيجياتهم ... ليخسروا و يفوزوا بواسطتنا و عبرنا في انتخاباتهم و برلماناتهم ... ليخفضوا بفضلنا مستويات البطالة و الركود في مصانعهم و مجمعاتهم الإستهلاكية , ليرفعوا عن طريقنا أعداد زبائنهم المحتملين على محطات التلفزيون و الكابل , و يزيدوا من خلال استطلاعات رأيهم حولنا و حول ما يجري لنا من مبيعات جرائدهم و أقنعة هالوينهم في الأعياد ؟؟!

هل ترانا نجرؤ على أن نأخذ في اعتبارنا المرتزقة الوطنيين حملة الجنسية و اللكنة و تقاسيم الوجه من أهل المحلة و الشارع ؟
هل لدينا الصلاحية المنهجية مثلا لتضمين رقمنا النهائي مرتزقة الإثنية و الجغرافية التاريخية و المكتسبات الجينية و العلم الكفن ؟

هل نملك أن نتكلم عن مرتزقة سماويين , ديّانين , ماورائيي المرامي والوسائل و الغايات ؟

يحاول القائد الأعلى للقوات المسلحة _الجنرال لاحقا_ السيد جورج بوش ضخ (623,8 ) مليار دولار في آلته العسكرية الذكية , لا لصون أمنه الوطني كما يزعم على مبعدة آلاف الفراسخ والأميال بل سعيا في استثمارها هنا ليعجل فرج هرمجدون الشرق الأوسط انطلاقا من شرارة خريف نيويورك , و عليه لا ضير من استغلال أي شيء و زج أي كان في هذا الأتون الملتهب .

مرتزقة جاؤوا لا من الولايات المتحدة الأميريكية و بريطانيا فحسب , بل من البيرو وتشيلي , من كولومبيا والهندوراس والإكوادور , من جميع أميركا الجنوبية الشقيقة , و كأن اللاتينيين لا تكفيهم حروبهم التوراتية وأزماتهم و كوارثهم المحلية كي ينفقوا فيها دمائهم , أو كأنهم أدمنوا المجازر و حروب العصابات الدول ؛ فدلفوا إلينا مسيرين بمقتلهم , هربا من شبح بعض الاستقرار الذي قد يلوح في قارتهم المنهكة .

هل هو الفقر حقا كما قرر التقرير و كرر ؟ أم لعلها الجارة الشمالية وجدت أخيرا من حيث لا تدري شيئا من حل سحري لمواجهة جني اليسارالرابض في أحراش وأدغال تلك البلدان , و الذي ما انفك يسعى محاولا أن يتلمس خروجا فوهة القمقم ؛ فسعت سراعا إلى إفراغ البلاد من بعض "فقرائها" و استزلامهم في محرقة لا عودة منها .

تقرير الأمم الأمم المتحدة الأخير حول المرتزقة في العراق لم يمتلك هذه المرة سعة أفق إحصائية كانت لتكون جديرة بالتنويه والإشادة لو أسعفه الحظ بأن يلحظنا نحن أيها السيدات و السادة أنفسنا , فيضيفنا عددا إلى مدوناته و جداوله و يضعنا في تلك الخانة إياها , نحن المرتزقة في أوطاننا , من نعامل في أحايين ليست قليلة بلادنا كمغتربين أزليين , من قد لا نملك لأرضنا و جيراننا عليها في النهاية ولاء أكبر من ولاء الغجر للفنادق .

مصادر
سورية الغد (دمشق)