ربما يحق للرئيس الأمريكي جورج بوش أن يرسم السيناريو الذي يراه لمستقبل الحرب على العراق، فـ"استراتيجيته" الجديدة على حسب تعبيره "تحتاج" إلى وقت، والمسألة بالنسبة له تتعدى "المستقبل السياسي" إلى "مصير" تفكير سياسي"، قاد الولايات المتحدة والعالم طوال السنوات الست الماضية. لكن هذا التفكير في المقابل أعاد قواعد التعامل السياسي داخل العالم بالدرجة الأولى، وهو ما جعل تصريحات كافة أقطاب الإدارة الأمريكية في الذاكرة الرابعة للحرب وكأنها تسبح في فراغ، وذلك في مواجهة "النتائج" السياسية التي بات من الصعب تغيرها أو حتى تعديلها.

وفق الصورة السابقة فإن التصريحات الأمريكية في مقابل التظاهرات ضد الحرب، أو حتى استطلاعات الرأي حول شعبية بوش أو غيرها من المواضيع، تبدو باهتة أمام المعادلة الدولية التي باتت تحكم النظام الدولي، فالمسألة لم تقف عند حدود كسر القواعد داخل مجلس الأمن الدولي، واستباق جلسته لـ"شن الحرب"، بل أيضا في تجاوز العلاقات المتبادلة، حيث حملت الحرب:

  إنهاء "مسار تطور" النظام الدولي الذي بدأ يتحول مع نهاية عام 2000 نحو تكتلات دولية ما بين أوروبا وآسيا، باتجاه خلق "محورين" حددهما الرئيس بوش وصاغ استراتيجيته في "الحرب الاستباقية" على أساسه. وهذه الحدة في الفصل السياسي تعود عمليا إلى مرحلة الحرب الباردة، ولكن الإدارة المريكية قادتها مع عدم وجود توازن في القوى الدولية. والملاحظ انه بعد اربع سنوات فإن "الحلف العسكري" الذي قادته الولايات المتحدة تشتت، وانسحبت بعض الدول منه، لكن الصيغة السياسية لـ"المحورين" ماتزال مستمرة في تصريحات الإدارة الأمريكية.

  منذ حرب الخليج الثانية وانسحاب القوات العراقية من الكويت، جرى "تدويل" للكثير من المسائل المسببة للأزمات، مثل الموضوع الفلسطيني، أو مسألة إقليم كوسوفو او حتى الإرهاب. وكانت هذه الصيغة تطرح "المسؤولية الجماعية" تجاه الأزمات التي تتطور سريعا، وبغض النظر عن النجاح الذي حققته سياسة "المسؤولية الجماعية"، إلا ان سياسة المحافظين الجدد أغلقتها نهائيا وفرضت معايير لها، وفي نفس الوقت احتكرت الحق في التدخل أو طرح الحلول.
هذه الصورة الدولية غابت تماما عن التصريحات الأمريكية في ذكرى الحرب، لأنها تعاملت مع الإجراءات الخاصة بـ"العراق" فقط، بينما كانت الحرب على العراق شأنا دوليا وانعكس على مختلف الأوضاع الدولية، فالاهتمام الأمريكي بإنجاح استراتيجية بوش، او حتى نجاحها بالفعل، لا يمكن أن ينهي "العلاقات الدولية المتأزمة"، أو يوسع الاختيارات المتاحة أمام العلاقات الدولية، فآلية الحرب هي التي فتحت الأزمات أكثر من "العنف" الذي خلفته العمليات العسكرية أو المقاومة التي ظهرت بعد احتلال العراق.

عمليا فإن ما حدث في العراق كان "حربا مزدوجة"، الأولى عسكرية بشكلها المباشر، خلفت في أقل من عامين حربا أخرى خاضتها إسرائيل في لبنان، وربطتها الولايات المتحدة بشكل علني بما حدث في العراق على قاعدة "الشرق الأوسط الجديد"!! أما الحرب الثانية فكانت في التحولات السياسية التي بدت كسلسلة متواصلة من تبدل العلاقات إقليميا، أو حتى من تعامل الأطراف الدولية مع نتائج الحرب. فمن الضغوط على سورية التي حملت تدهورا جديدا في العلاقات العراقية – السورية، ومرورا إلى العلاقات السورية – اللبنانية، وأخيرا الملف النووي الإيراني الذي دخل في "حزمة" الأزمات لمرحلة ما بعد الحرب، توضح أن المسار الثاني للحرب لم يحمل فواصل واضحة في تتالي "الأزمات"، وأن المفاهيم التي نشأت عليها المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى انتهت بشكل سريع، مخلفة على الأقل "بقايا" دولة في العراق، إضافة لتداخلات إقليمية تهدد سيادة كل دولة على حدة.

وإذا كانت الولايات المتحدة اليوم ترى في هذه الحرب نقطتين: الأولى مستقبل قواتها في العراق، والثاني إيجاد حل سياسي "مهما كان نوعه" يضمن لها نتائج اقتصادية لعملية الاحتلال برمتها. لكن عمق الأزمة على المدى المنظور لايقدم تصورا منطقيا لهاتين المسألتين، لأن مساحة الأزمة تبدو غير محدودة، وفي نطاق الاستراتيجية الأمريكية في الفصل الحاد، لا يمكن خلق حوار واضح مع كافة الأطراف الإقليمية لتطويق الأزمة، وهو ما يجعل الحديث في ذكرى الحرب نوعا من الخروج عن منطق الأزمة الموجودة، ويدخل في إطار "الخطاب الانتخابي" الذي يحمل الوعود ويحمل بروبوغندا أكثر من كونه طرحا للحلول السياسية او تقديم رؤية لجملة الأزمات.

بعد أربع سنوات فإن "تقييم" نتائج ما حدث يبدو شأنا فارغا، لأنه خلف "أشلاء" لشرق أوسط مازالت الولايات المتحدة تحلم بولادته رغم أنه جاوز مرحلة الكهولة قبل ان توجد الولايات المتحدة على الخارطة الدولية.

مصادر
سورية الغد (دمشق)