ربما ليس هناك فرقا واضحا بين أشكال العنف سواء قامت بها قوات الاحتلال الأمريكي او الإسرائيلي، أو التيارات "الجهادية". فالجميع يدعون امتلاك الحقيقة .. والجميع يعتبرون أنفسهم مهددون بثقافتهم. الفرق الوحيد أن احتكار الحق في الإدارة الأمريكية يُفرض فقط على المجتمعات التي تسود فيها هذه الفكرة، بينما تستطيع باقي المجتمعات النجاة طالما انها قادرة على بناء حوار داخلي.

القائمون على الحقيقة يستمدون شرعيتهم من البنية الخاصة بالمجتمع .. والقائمون على القيم والأخلاق قادرون على إيجاد التراث الذي يمدهم بالدعم داخل مجتمعات تاريخية. فهم ينتشرون داخل بيئة مناسبة ووفق سياق يتيح تطورهم بشكل كبير. ولا فرق هنا بين الإدارة الأمريكية او التيارات "الجهادية"، فالاثنين يمتلكون المبررات والأدوات، مع تبادل المصطلحات ما بين الدكتاتورية والفساد، وجنة الديمقراطية أو جنة المتقين.

المهم أن احتكار الحق بالنسبة للإدارة الأمريكية غير قادر على النفاذ إلا في بيئة تراثية. بينما يستطيع "التراثيون" حمل المجتمع على اعتناق أفكارهم وفرضها بقوة أكثر من أي حملة إعلامية منظمة. فهم يمتلكون المنابر بشكل تلقائي .. بينما يحتاج الآخرون وفي كافة المجتمعات العربية إلى التراخيص والموافقات لإصدار مطبوعة او تنظيم محاضرة .. المجتمع مدعو بشكل عفوي مرة في الأسبوع على الأقل للقاء الفكر التراثي، والمجتمع غير قادر على سماع الأصوات الخافتة وغير المنظمة لمن يؤمن بان الحق لا يستطيع احتكاره شخص او فئة.

هذه الصورة التي يرسمها "التراثيون" يوميا تجد انعكاسها في أي عنف يمكن أن يبرره صاحب الحق .. فطالما ان الوالد قادر على ضرب ابنه دون ان يستطيع المجتمع ومؤسسات الدولة التدخل، فإن أصحاب التيار التراثي قادرون أيضا على فرض قانونهم بعنفه، المادي والمعنوي، على كافة أبناء المجتمع. ومادامت قاعدة الرجال قوامون على النساء، فإن المرأة ستبقى "ناشز" .. وسيبقى النظام الاجتماعي متكاملا من شيخ الجامع، الذي يتدخل حتى في الطب والعلوم ليجيزها شرعا، وصولا إلى بنية الأسرة.

العنف يحاصر مجتمعاتنا .. وثقافتنا مهددة .. ليس بجانبها التراثي لأنه سيبقى مصان في ظل القائمين على "الحقيقة" .. ثقافتنا مهددة فعليا في انحسار الأفق مع صور الجماعات القادرة على تصفية أي شخص لأنها ترى في نفسها مرجعية في "النهي عن المنكر" .. فهي تفرض قانونها ابتداء من إيقاظ الناس في الفجر عبر مكبرات الصوت، وفرض الاحتفالات حتى ساعة متأخرة من الليل .. بينما لا يملك أي شخص الحق في الاعتراض على هذا التكوين التراثي الذي يملك "الشرعية" في تنفيذ ما يريد .. ثم نسأل لما لا نشاهد على شاشات الفضائيات سوى العنف!!!

مصادر
سورية الغد (دمشق)