يحفل التاريخ الإنساني ولا سيما المعاصر منه بظاهرة جدران الفصل التي يلجأ اليها طرف في مواجهة طرف آخر بقصد إقامة مانع للصلات بين الجانبين بما في ذلك منع مرور الاشخاص بين الجانبين، ولعل أكثر جدران الفصل شهرة في القرن العشرين كان جدار برلين الذي أقيم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية للفصل بين قسمي المانيا ومنع تفاعل سكانها في بلد مزقته إرادات الدول الكبرى المنتصرة في الحرب، وفصلت ايدلوجياً وسياسياً واقتصادياً بين كتلتي شعبه في المانيا الشرقية والأخرى الغربية، وقد أطاح الالمان بالجدران الفاصلة في اطار التحولات الديموقراطية التي شهدتها اوروبا الشرقية بداية التسعينيات، ووضعت من خلالها نهاية الانظمة الشمولية في شرق اوروبا، وأعادت توحيد المانيا بعد تقسيم استمر أكثر من اربعة عقود ونصف من السنوات.

وورث جدار الفصل الاسرائيلي الذي أقامته حكومة ارئييل شارون للفصل بين الاسرائيليين والفلسطينيين في الاراضي المحتلة شهرة جدار برلين السيئ الصيت والسمعة، فكان مثله وأكثر، اذ لم يفصل فقط بين الاسرائيليين والفلسطينيين، إنما مزق لحمة فلسطينيي الاراضي التي احتلتها اسرائيل عام ,1967 فجعل قسماً منهم في «الجانب الإسرائيلي» وآخرين في «الجانب الفلسطيني»، كما عزل بين فلسطينيين وبعض ممتلكاتهم ايضاً.

وفاقت معارضة جدار الفصل الاسرائيلي مثيلتها ضد جدران برلين، وتجاوزت معارضة الجدار موقف الفلسطينيين الى معارضة المجتمع الدولي بدوله ومؤسساته اضافة الى الرأي العام الذي يرسل نشطاءه من دول العالم المختلفة ولا سيما من الدول الغربية للاحتجاج على الجدار والمطالبة بإزالته وإنهاء معاناة الفلسطينيين الناتجة عنه.

ومثلما تفتق الاحتلال الاسرائيلي عن فكرة الجدار العازل، ذهب الاحتلال الاميركي في العراق نحو الفكرة ذاتها. فقرر الجيش الاميركي إقامة جدار اسمنتي في وسط العاصمة العراقية بغداد، لا يفصل بين العراقيين والاحتلال ـ وهو فصل قائم بالفعل ـ وإنما للفصل بين العراقيين انفسهم بتقسيمهم الى سنة وشيعة، وهو تقسيم يأخذ طابعاً سياسياً من جهة وطابعاً أمنياً من جهة أخرى، ويتغذى في الحالتين مما أشاعه واشتغل عليه الاحتلال في العراق في خلال السنوات الاربع الماضية، مستنداً الى ما خلفه العهد الطويل من الدكتاتورية والسيطرة الشمولية، التي عاش العراق في ظلها إبان حكم حزب البعث العراقي.
ورغم مظاهر الانقسام الطائفي في عراق الاحتلال وما يصاحبها من اعمال ذات طابع إجرامي تتخذ طابعاً طائفياً. فقد اظهر العراقيون معارضة ملموسة لإقامة جدار الفصل في بغداد، فأعلنت حكومة بغداد معارضة الجدار الاسمنتي وتحويله الى جدار بالأسلاك الشائكة في نقطة هي وسط بين الرفض العراقي ونزعة المحتل الاميركي، لكن موقف الحكومة العراقية، لا يغير في محتوى الجدار سواء أكان من الاسمنت المسلح او من الاسلاك الشائكة، لأنه في الجوهر، يمثل عملية فصل وعزل للعراقيين.

وتوجهات الاحتلال الاميركي في العراق في إقامة المعازل، لا تقتصر على داخل العراق، بل جرى في الاعوام الاربعة الماضية دفع فكرة جدران عزل بين العراق ومحيطه والتحريض عليها، واساس الفكرة، يكمن في مقولة تسلل المسلحين الاجانب عبر دول الجوار الى الداخل العراقي ومحاربة الاحتلال، وهو امر ممكن لكنه محدود من جهة، ولا يمكنه تبرير إقامة آلاف الكيلومترات من الجدران حول العراق الذي تتجاوز حدوده مع سوريا مئات الكيلو مترات، وتقارب حدوده مع المملكة العربية السعودية الألف كيلو متر. واذا كانت سوريا عززت حدودها مع العراق بسواتر ترابية مرتفعة، فقد أعلنت السعودية في اواخر العام الماضي شروعها بإقامة جدار اسمنتي على طول حدودها مع العراق لـ«منع تسلل الارهابيين»، وستبلغ تكاليفه مع متمماته من القواعد العسكرية اثني عشر مليار دولار.

ان فكرة جدران الفصل، تتجاوز كونها إجراء مادياً. اذ هي اجراء له معنى سياسي في أهم جوانبها، ومن هذه الزاوية يمكن النظر الى كثير من الاجراءات والسياسات التي تتم متابعتها في كثير من البلدان العربية ومنها العراق الذي بات شماله منفصلاً عن بقية أجزائه بجدار سياسي يفصل بين الأكراد العراقيين وبقية مواطنيهم، محولاً هذا القسم من العراق الى كيان شبه منفصل له رئاسته وحكومته وبرلمانه واجهزته الخاصة، والطريف في الامر إعلان مسؤولين في كردستان العراق الترحيب بقدوم العراقيين الفارين من القتل والارهاب في بغداد الى كردستان، وكأن سكان هذا الاقليم ليسوا من العراقيين اساساً!

إن الموازي لجدران الفصل، والأخطر منها في السياسات الرسمية العربية، يظهر في التقسيمات ما قبل الوطنية التي تعممها معظم الحكومات العربية، فتقسم مواطنيها الى أتباع أديان وطوائف ومناطق وعشائر، وتغذي الصراعات بين مكونات الجماعة الوطنية على امل تحقيق الغلبة لها في الحكم، ومن اجل الاحتفاظ بالسلطة اطول مدة ممكنة، وهذه السياسة، وان اتصلت بعالم الاستعمار القديم ونظريته في شعار «فرق تسد»، فإنها تتصل من جانب آخر بسياسة جدران الفصل، التي يكرسها المحتلون، وتجد فيها بعض الحكومات ما يعزز سيطرتها على مجتمعاتها وشعوبها.

مصادر
السفير (لبنان)