لا أقصد بتعبير المجتمع الدولي كل المجتمعات المنتسبة إلى الأمم المتحدة، فكثير منها ضعيف الشأن كحالنا نحن العرب، وقد بات حضورنا هامشياً بين الأمم المتقدمة على الرغم من كوننا محور العمل السياسي الدولي، فما أظن قائداً سياسياً في الدول الغربية الكبرى يصرف من وقته واهتمامه لبلده ومواطنيه كما يصرف لقضايا منطقتنا العربية. والعرب ليسوا مسؤولين وحدهم عن حالة التردي التي يعانون منها اليوم، فالمتغيرات الدولية الكبرى عصفت بهم وأفقدتهم أصدقاءهم، بل إن أمماً كانت تناصرهم وتحرص على صداقتهم وترفض أن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل "كرمى لخاطرهم"، سارعت لإقامة علاقات متينة مع إسرائيل حين وجدت بعض العرب يسعون لتوطيد صلتهم بإسرائيل. ولم يعد بوسع عربي أن يعتب على أصدقاء الأمس من آسيا أو أفريقيا ممن كانوا يعتبرون قضايا العرب قضاياهم في كل المحافل الدولية، فلن يكون الأصدقاء (ملكيين أكثر من الملك) كما يقول المثل، وقد خسر العرب جملة الأنصار لقضاياهم دون أن يجدوا بديلاً. بل إن الدول العربية التي تقربت من إسرائيل أو من الدول الغربية الكبرى وجدت أن كل ما بذلته من صلات وعلاقات ظنتها وطيدة، قابل للانهيار دون إنذار. ولقد كادت تداعيات جريمة 11 سبتمبر المنظمة أن تودي بتاريخ عريق لبعض الدول العربية مع الولايات المتحدة، لولا أن الولايات المتحدة كانت بحاجة ماسة إلى تهدئة تمكِّنها من إقامة تحالفاتها الدولية من أجل الحرب على أفغانستان ومن ثم على العراق.

ولقد كان أخطر امتحان تعرض له النظام العربي هو تحميل العرب والمسلمين مسؤولية الإرهاب الدولي، والطلب من الأنظمة العربية أن تعتبر المقاومة الوطنية ضد العدوان إرهاباً، ولم يكن أمام العرب غير أن يعلنوا مبادرتهم للسلام، ليواجهوا بها نذر الحرب عليهم، وليقدموا السلام بديلاً للمقاومة، لكن الموقف الدولي من المبادرة بعد إعلانها في قمة بيروت كان بارداً بل متجاهلاً، في وقت صعَّدت فيه إسرائيل عدوانها على الشعب الفلسطيني، وتابعت فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها عدوانهم على العراق، ووصل طغيان المجتمع الدولي إلى احتقار المنطق الإنساني حين صمت على اعتبار المقاومة إرهاباً، وعلى رفض الولايات المتحدة دعوات العرب المُلحة إلى عقد مؤتمر دولي لتعريف الإرهاب.

وكان موقفاً عاقلاً أن تتجنب الأنظمة العربية أي صراع يفرض عليها في مرحلة جنون القوة الأميركية الصهيونية، ولا تملك هذه الأنظمة ضمانات النصر وليس لها أصدقاء يقدمون لها عوناً حاسماً. لكن المقاومة الشعبية لم يعنها أن توصف بالإرهاب أو بسواه، ولم تدخل برنامجها في حساب التوازنات، فقد استمرت بتقديم التضحيات، وكانت قد نجحت في تحقيق نصر مؤزر في لبنان حين تحرر الجنوب المحتل، ثم بدأت المقاومة الفلسطينية تحقق مزيداً من النجاح، ووصلت "حماس" إلى سدة السلطة على الرغم من كل الضربات العنيفة التي تعرضت لها، وقد استخدمت سلاح الديمقراطية الذي أشهره الغرب على العرب، فحققت به "حماس" ما كان أشبه بالحلم.

ولقد بدأ الموقف الدولي من القضايا العربية يتغير بسرعة ملفتة منذ أن حققت المقاومة اللبنانية في الصيف الماضي نصرها الكبير في "الوعد الصادق"، ومنذ أن أثبت الشعب العراقي أنه قادر على الحفاظ على وحدة العراق وهويته على الرغم من كل ما يلقاه العراقيون من عنف ومن تشويه لمواقفهم الوطنية عبر العمليات الإرهابية التي يقوم بها مجرمون يهدفون إلى بث الفوضى والذعر، وكان موقف التيار العروبي القومي الذي قبض على الجمر رغم كل التهديدات والعقوبات والاتهامات الباطلة التي وجهت إليه، مصدر قوة للأمة. كل ذلك جعل قمة الرياض تحقق ما كنا نصبو إليه من تلاحم وتضامن عربي، ومن تمسك بالثوابت، وها نحن اليوم نحصد ثمار الإصرار والمقاومة، فقد تغيرت مواقف مهمة في المجتمع الدولي لصالح العرب، بعد أن استعاد شعبنا احترام المجتمع الإنساني له، وهو يرى بطولاته وصبره على التضحيات. واليوم تراجع شخصيات مهمة في الولايات المتحدة سياسة البيت الأبيض التي جلبت لأميركا كراهية من كل شعوب الأرض، ويبدأ البحث الجاد عن وسائل وآليات الحوار، كما أن مواقف الدول الكبرى بدأت تظهر أقوى في التعبير عن خصوصياتها كما تفعل روسيا التي تدرك خطر القواعد العسكرية الأميركية التي باتت تحيط بها من كل اتجاه، وكذلك الصين التي تمتلك مع العرب تاريخاً صافياً نقياً لا حروب فيه ولا عداوات، بل هو تاريخ تعاون ثقافي وتجاري يشهد اليوم ذروة من ذرواته، وهذا ما يقلق إسرائيل وهي ترى تنامي المصالح المشتركة بين العرب والصين. ودخلت اليابان على الخط ربما بدافع من الولايات المتحدة ليكون لها دور في عملية السلام، وأما الاتحاد الأوروبي الذي يدرك خطر الانجرار إلى حرب جديدة في المنطقة لن تكون محدودة بالتأكيد، فقد بدأ قبل الولايات المتحدة بالعمل بمضمون تقرير "بيكر- هاملتون"، بل إن مواقف إسبانيا ومن بعدها إيطاليا بدت سباقة ومتقدمة جداً. ولم يحقق الاحتلال الأميركي للعراق أي هدف لأوروبا، فقد كانت الأهداف كلها إسرائيلية تتمحور حول إضعاف شعب العراق وتدمير قواه، ولكن النتائج بدت كارثية على أوروبا لأن شرر الفوضى سيصيبها أكثر مما يصيب أميركا. وقد حاولت فرنسا أن تجد في مخطط "الشرق الأوسط الكبير" حصة وظنت أن ماضيها يؤهلها للتخصص بلبنان، لكنها اكتشفت أن لبنان اليوم هو غير لبنان الذي كانت تعرفه في مطالع القرن العشرين، بل وجدت أن مخطط "الشرق الأوسط الكبير" مجرد وهم صهيوني، وأن نظراء سايكس وبيكو لم يعودوا قادرين على رسم الخرائط وتنفيذها وهم مرتاحون. ولقد كان السعي وراء أوهام "الشرق الأوسط الكبير" غلطة من الرئيس شيراك نرجو أن يصحِّحها من سيأتي بعده لأننا نحرص على أن تبقى علاقاتنا العربية مع فرنسا في أفضل حالاتها.

ويبدو من أهم المؤشرات على التحولات في المواقف الدولية هذا الموقف المتصاعد ضد مروجي الحروب، وبخاصة ضد أولئك الذين يريدون إضرام حرب ضد إيران، أو الذين يخشون أن تكون الحرب الخاسرة التي خاضتها إسرائيل ضد لبنان هي آخر الحروب الإسرائيلية على العرب، وبعضهم يرسم سيناريوهات لحرب إسرائيلية ضد لبنان وسوريا. ولقد كنا لا نسمع من الولايات المتحدة إلا لغة التهديد والوعيد، لكننا اليوم بدأنا نسمع تصريحات سياسيين عقلاء في الكونجرس وفي الإعلام الأميركي ترفض الحرب وتدعو إلى الحوار، وهذا ما بدأ يخيف الصهيونية التي تفقد أنصارها بكثرة في الغرب وهم في الحقيقة ليسوا أنصاراً، فالغالبية منهم يكنون لها كراهية شديدة ولكنهم يخشون غضبها، ويصرفونها عنهم إلى بلادنا. ولكنهم بدأوا يضيقون بما تحمِّلهم من مسؤوليات كبيرة، وهذا الشعور يكبر في الولايات المتحدة التي بدأ عقلاؤها يكتشفون ضخامة حجم التضحيات التي يقدمها شعب الولايات المتحدة من أجل إسرائيل، وبدأ السياسيون الأميركيون المخضرمون يكتشفون استحالة التوصل إلى حل عسكري للصراع العربي- الإسرائيلي.

ولئن فشلت إسرائيل في زج الولايات المتحدة في حرب ضد إيران لصالحها كما فعلت في العراق، فإن سلسلة من المواقف الدولية ستعيد رسم الخريطة السياسية للتحالفات في العالم، وإن نجحت -وهذا ما أستبعده- فإن ما سيلحق إسرائيل من تبعات هذه المغامرة العسكرية سيكون أخطر عليها مما قد تتعرض له الولايات المتحدة نفسها، ونرجو أن يزداد موقف المجتمع الدولي وعياً لكون الحروب لا تحسم الصراعات، وإنما يحسمها السلام العادل وحده.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)