إقبال كثيف على الانتخابات الرئاسية الفرنسية وسط أجواء ديمقراطية رائعة. والجميع يحترمون الإجراءات ولا أحد يشكك في نزاهتها أو يشكو من عيب فيها ناهيك عن مخالفات جسيمة أو انتهاكات.

ولم تترك أحداث العنف التي نظمها قوميون متشددون في جزيرة كورسيكا (موطن نابليون بونابرت) أثراً يذكر على العملية الانتخابية في عموم فرنسا ووراء البحار بالرغم من أنها وقعت في اليومين السابقين على الانتخابات.

وما كان لعنف من هذا النوع أن يؤثر على انتخابات حرة وشفافة، لأن من لجؤوا إليه ينتمون إلى اتجاه آخذ في التراجع، بعد إخفاقه الشديد في الانتخابات الإقليمية الأخيرة التي لم يحصل فيها سوى على ثمانية مقاعد في الجمعية الوطنية لكورسيكا. فالأغلبية الساحقة من سكان هذه الجزيرة ضئيلة الموارد يعرفون أن انفصالها عن فرنسا يساوي تدهوراً رهيباً في مستوى معيشتهم، ولا يحفلون بالتالي بشعارات لا تشبع ولا تغني.

وفي مقابل مشهد الإقبال الشديد على الانتخابات الرئاسية الفرنسية وضمانات الحرية والنزاهة فيها، كان الإقبال ضعيفاً على الانتخابات الرئاسية النيجيرية التي شابتها أعمال عنف وتلاعب وأشكال شتى من الانتهاكات بلغت حد خطف أحد المسؤولين عن العملية الانتخابية وسرقة عدد غير معروف من صناديق الاقتراع في إحدى الولايات.

مشهدان متناقضان تماماً، وليسا فقط مختلفين، فصل بينهما يوم واحد. إذ أجريت الانتخابات النيجيرية والفرنسية في يومين متواليين (السبت والأحد من الأسبوع الماضي). وتزامن معهما مشهد لا يمكن أن نعتبره ثالثاً لأنه أقرب في محتواه إلى ما حدث في نيجيريا، وإن اختلف في شكله، وهو مشهد الانتخابات التشريعية السورية التي أجريت في ظل فتور شعبي واضح وليس مجرد ضعف في الإقبال.

فلم تشهد هذه الانتخابات عنفاً من النوع الذي حدث في نيجيريا لأنها تحصيل حاصل. نتائجها معروفة سلفاً. والتنافس فيها يحكمه سقف منخفض حتى بين الأشخاص الذين لا يختلفون سياسياً فيما بينهم. ولم تحدث انتهاكات في عملية الاقتراع، لأن ما سبق هذه العملية يكفي ويفيض.

وهكذا يظل البون شاسعاً بين الانتخابات في دول شمال العالم بوجه عام، على ما بينها من تفاوت، وفي معظم بلاد الجنوب على ما بينها من اختلاف ثقافي –حضاري وتباين في مستوى التطور، أو عدم التطور، وتنوع في النظم السياسية وفى التكوينات الاجتماعية وفي الإمكانيات الاقتصادية. فالقاسم المشترك الأعظم بين معظم بلاد الجنوب، الفقيرة والغنية وما بينهما، والحديثة والتقليدية والبين بين، هو أن الانتخابات فيها لا تشبه ما يحدث في بلاد الشمال حين يقترع الناخبون على أي مستوى بدءاً من رئاسة الدولة وليس انتهاء بأصغر وحدة محلية.

فالانتخابات في دول الشمال تبدو –في معظم الأحيان– كما لو أنها عرس يحتفل فيه الناس بحريتهم ويؤكدون خلاله دورهم في إدارة الشأن العام عبر اختيار من يرونه الأصلح. كما تبدو هذه الانتخابات في أحيان أخرى كما لو أنها منافسة رياضية رائعة، أو قل إنها تجسد لهذا النوع من المنافسة على أصوله التي تفتقدها أحياناً المباريات في هذه الرياضة أو تلك، وفي هذا البلد أو ذاك، خصوصاً رياضة كرة القدم في بريطانيا مثلاً.

أما في معظم دول الشمال، فتكون الانتخابات عادة يوم توتر واحتقان وغم، وقد تكون مصدراً لكآبة وطنية أو تجسيداً لهذه الكآبة. غير أن هذا التناقض بين شمال في عمومه وجنوب في معظمه لا يصح أن يوقعنا في براثن التفكير العنصري الذي يفسره باختلاف ثقافي –حضاري– ديني يخلق فجوة من النوع الذي يصعب عبوره ويتعذر تجسيره.

فلهذا التناقض مصادره المرتبطة بعملية تاريخية ممتدة حدث خلالها تفاوت في مستوى التطور أدى إلى وقوع التحولات الاقتصادية– الاجتماعية والثقافية اللازمة للممارسة الديمقراطية في أوروبا التي سبقت إلى التقدم وأخذت موقع الصدارة، بعد أن كانت في مؤخرة العالم ترسف في تخلف هائل في مرحلة سابقة.

فبلاد الشمال التي تتوالى فيها مشاهد الانتخابات الرائعة التي لا تفتأ تذكرنا بأنها تتربع على قمة الحضارة اليوم، كانت ذات يوم في ذروة التخلف والظلام.

وبعض بلاد الجنوب التي تكثر فيها مشاهد الانتخابات المحزنة التي تعيد تذكيرنا بأنها باتت في قاع العالم الراهن، مضى عليه عهد كان في قمة المجد أو ما يقرب منها.

ولا يقتصر ذلك على بلاد المسلمين التي كانت منارة للحرية والعلم والتقدم من بغداد إلى قرطبة. ففي هذا التاريخ السعيد الذي مر على ما يعتبر الآن جنوب العالم، فصول مشرقة لبلاد وممالك إفريقية أيضاً كان بعضها على مقربة من المناطق التي شهدت أحداثاً مخجلة في الانتخابات النيجيرية الأخيرة.

فلا أساس، إذن، لتفسير حضاري – ثقافي يبدو محايداً أو موضوعياً، بينما باطنه عنصري خبيث يفضح بالانحياز الحضاري والتمييز الديني.

فهذا التفسير في تعارض تام مع حكمة التاريخ الذي تؤكد أحداثه أن مفاتيحه ليست حكراً على قوم ولا احتكاراً لدين ولا لحضارة بعينها، وأن مغاليقه ليست مكتوبة على بشر دون غيرهم.

فالمتباهون بما بلغوه من شأو اليوم لم يحققوا ذلك إلا بناء على إسهامات من دارت الدائرة عليهم بعد ذلك. فأولئك الذين تخجل الديمقراطية اليوم من ممارساتهم التي ينسبونها إليها، قدموا للبشرية ما لم يكن ممكناً بدونه أن يفخر المتباهون بديمقراطيتهم وانتخاباتهم اليوم.

فالفرق، إذن، يعود إلى المسار الذي قطعه التاريخ في تطوره، فنشأت الديمقراطية والتقاليد الانتخابية في شمال العالم في ظل مستوى معين من ذلك التطور. وإذا كان في هذا الفرق ما يدل على اختلاف ثقافي، فهو يرتبط بالمجتمع وليس بالحضارة والدين. إنه فرق في مستوى تطور ثقافة المجتمع، إذ تراكمت ثقافة ديمقراطية في مجتمعات الشمال في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية أنتجتها ووفرت لها مقومات التطور. وفي هذه الثقافة نسق قيمي يحترم التعدد والاختلاف والتنوع والتنافس، بل يعتبره سنة الحياة وطبيعتها، ويحفز على قبول الآخر واحترام آرائه ومعتقداته أياً يكن الاختلاف عنها والخلاف معها.
وفي هذه الثقافة تقاليد تنامت عبر الممارسة التي شهدت انتكاساً في بعض المراحل وتراجعاً في مراحل أخرى على مدى نحو خمسة قرون، بما في ذلك خلال القرنين الأخيرين اللذين تحقق خلالهما القسم الأعظم من التقدم الديمقراطي.
ومازالت الانتكاسة النازية والفاشية في الربع الثاني من القرن الماضي ماثلة في الأذهان بما حدث خلالها من انتهاكات رهيبة لم يشهد جنوب العالم غير الديمقراطي مثلها إلا على سبيل الاستثناء.

وما كان لانتكاسة بهذا الحجم، ولا لأقل منها، أن تحدث إلا لأن الخط الثقافي الفاصل بين الديمقراطية ونقائضها يقع في المجتمع المتغير وليس في المرجعيات الثابت منها (الديني) والمتحول (الحضاري).

فالفرق بين المشهد الذي رأيناه في فرنسا الأسبوع الماضي، وسنراه مجدداً الأحد المقبل والمشهدين اللذين تزامنا معه في نيجيريا وسوريا ينطوي على أبعاد ثقافية حقا. ولكنها لا تتعلق بالمرجعيات الدينية والحضارية التي يحيل عليها التفسير العنصري للفرق بين هذه الانتخابات وتلك، ولا لأصول أصحاب هذه المرجعيات على ما يذهب إليه تفسير أكثر عنصرية.
فالأبعاد الثقافية، هنا، تتصل بمستوى تطور المجتمع في مرحلة معينة. وهذا المستوى يتأثر بعوامل متنوعة أقلها مطلق وثابت، ومعظمها نسبي ومتغير.

وهذا ما يجعل التاريخ مفتوحاً للجميع لا يمكن غلقه ولا صبه في قوالب ولا تأميمه أو احتكاره، مهما بدا الفرق شاسعاً رهيباً بين انتخابات في فرنسا وأخرى ليس لها من اسمها نصيب في نيجيريا وسوريا.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)