باستثناء حصول معجزة، والمعجزات صارت قليلة هذه الايام، فإننا سنفيق غداً على رئيس جديد لفرنسا، سيكون على الارجح نيكولا ساركوزي، كما ترجح استطلاعات الرأي التي جرت في الايام الاخيرة من المعركة الانتخابية، والتي تتوقع تقدمه على منافسته المرشحة الاشتراكية سيغولين رويال بعشر نقاط.

ليس من السهل الاستهانة بفوز كهذا وبوصول رئيس بمواصفات نيكولا ساركوزي الى قصر الاليزيه. منذ قيام الجمهورية الخامسة على يد الجنرال ديغول لم تعرف فرنسا، هذا البلد العريق، منارة الحرية وحقوق الانسان في العالم كله، رئيساً يصف بعض مواطنيه بالحثالة، أو يهاجم متظاهري ايار 1968 الذين شكلت حركتهم نقطة تحول في مسار النشاط الطلابي والثقافي، وليس في فرنسا وحدها، والذين خضع الجنرال ديغول امام ارادة تحركهم وانسحب من الرئاسة من دون أن يطلق كلمة انتقاد واحدة بحقهم. لم تعرف فرنسا ولا أي بلد يسمي نفسه ديموقراطياً رئيساً يعتبر من شروط المواطنة «أن تحبه او تغادره». كما لم تعرف فرنسا رئيساً لا يمنعه «تواضعه» من مقارنة نفسه بالملك لويس الرابع عشر ونابليون بونابرت فضلاً عن الجنرال ديغول نفسه! حتى فرنسوا ميتران، ذلك المثقف الراقي ورجل الدولة الحكيم لم يجرؤ على مثل هذه المقارنات.

كيف انتهت فرنسا الى هذا المصير؟ سؤال تتعدد الاجابات عليه. هناك طبعاً المنافسة الضعيفة من المرشحة الاشتراكية وعجزها حتى الايام الاخيرة من المعركة عن كسب الثقة في مؤهلاتها «الرئاسية». لكن اقرب الاجابات الى الواقعية أن العالم تغير كثيراً وانهارت بتغيره قيم العدالة واحترام الثقافات والتعددية التي كانت سائدة في حقبة ماضية. ما كان مستهجناً في الخطاب السياسي في الماضي، قبل عقد او عقدين من الزمن، صار مقبولاً طالما انه ينسجم مع الليبرالية في الاقتصاد ومع اللعب على وتر الشوفينية الوطنية التي تنتهي عند نقطة ما الى العنصرية، وخصوصاً اذا توفر لها الحشد الجماهيري الذي يغذيها ويصفق لها. بالتحديد هذا ما يمثله ساركوزي وما يدعم معركته. تحرر اقتصادي يضع المنفعة (منفعة الشركات ورؤوس الاموال) في الدرجة الاولى على حساب الخدمات العامة وحقوق ذوي الحاجات، ونزعة «وطنية» تضع قضية «المهاجرين» (أي الفرنسيين من اصول اجنبية) في السلم الاول من الاهتمام وتعتبرهم أحد مصادر التوتر الاجتماعي. ما أغرب أن يأتي ذلك على لسان ابن مهاجر وفرت له قيم فرنسا في العدالة والمساواة ما سوف تعمل سياسته نفسها على القضاء عليه!

اذا كان جورج بوش يصلح لقيادة بلد راق وصاحب دور عالمي متميز مثل الولايات المتحدة، فلماذا لا يصلح ساركوزي لقيادة فرنسا؟ مقارنة هي في الحقيقة ضد مصلحة ساركوزي، لكن مؤيديه لا يجدون حرجاً في اطلاقها. لكنها، هذه المقارنة، مؤشر آخر ما نذهب اليه. لقد تغير العالم، وصارت قياداته، او معظمها على الاقل، من الوزن الخفيف. يبدو أن الشعوب منصرفة الى همومها اليومية، الى العمل والانترنت ومتع السفر ومشاكل البيئة، ولم تعد تعبأ كثيراً بمستوى الحكام الذين تذهب الى صناديق الاقتراع للتصويت لهم.

هذا هو السبب الذي يدفع سياسيين وقادة مثل توني بلير وانغيلا ميركل وسيلفيو برلوسكوني وديفيد كاميرون زعيم حزب المحافظين البريطاني، فضلاً عن جورج بوش طبعاً، الى تأييد ساركوزي الذي يعتبرونه الرجل الافضل لقيادة فرنسا في هذه المرحلة. ولكن ماذا عن فرنسا نفسها؟ وماذا عن انعكاسات هذا التصويت على اوضاعها الامنية ومستقبل علاقاتها بالعالم الثالث والعربي والاسلامي على وجه الخصوص؟ كيف ستكيف هذه المناطق نظرتها الى فرنسا في ظل رجل يكسب معركته لأنه استطاع أن يخطف اصواتاً من قاعدة العنصري جان ماري لوبن زعيم «الجبهة الوطنية»؟ لقد تأهل لوبن للدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية سنة 2002 بما يقارب 17 في المئة من الاصوات وتراجع تأييده الى ما يزيد قليلاً عن 10 في المئة في الدورة الاولى من الانتخابات الحالية، والفارق بين النسبتين هو الذي ذهب على الارجح الى خانة ساركوزي.

لخصت سيغولين رويال في آخر اطلالة انتخابية لها نظرتها الى اوضاع فرنسا في ظل ساركوزي بأنها اوضاع خطرة سوف تؤدي الى اضطرابات واسعة بين قوى الامن وسكان الضواحي. أما مرشح الوسط فرنسوا بايرو فقال عن ساركوزي انه بعد خمس سنوات من توليه وزارة الداخلية اصبح لا يستطيع القيام بزيارة أي ضاحية من ضواحي المدن الفرنسية من دون أن يكون محاطاً بطوق امني.

صورة لا تعد بالكثير بالنسبة الى ثقافة التعايش والحوار التي تشكل طموح كثيرين من الذين كانوا يجدون في الديموقراطية والحريات الفرنسية نموذجاً يحتذى به.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)